د. خيرية السقاف
في المكان المنبثق من حجرة العمليات, المكان الصغير المخصص لمفاجآت المواقف, الذي تتراص فيه بعض مقاعد لمجموعات التخصص عند الطوارئ, المكان الذي فيه تنتصب شاشة ضوئية واسعة، الشاشة التي تعرض لقطة حية لقلب تعلم أن لها فيه سكنًا, وأنها تجوب في جداول عروقه منعَّمة, وأنها تتنقل فيه سياحة مع نبضاته, تفاجئها صورته بكل دروبه, وحجراته, ومساريه المغلقة, إلا ثمة معبر ضيق لا يكاد يتنفس فيه عصفورٌ للتو ولدته المباغتة فزعًا, هلعًا أمامها في الصورة!!
هو فقط هذا المعبر الضيق منفذ الأمل في شرح الجراح!!..
تذوب في العجز, ويذهلون، يتناهون لسدٍّ يوصِد منافذَ أفكارهم, والجراح يستعجل القرار في لحظة بين أمرين لا خيار بينهما, ولا أمل في أحدهما إلا الخيط الرهيف الرهيف, المخيف المخيف..
فصاحب هذا القلب مسجى تحت مكبرات الضوء ينتظر, جوار طاولات المشارط, ينتظر قريبًا منها, ومنهم في الجهة المضادة للجدار, يستمد منهم نبضًا, وكلمة.. فما القول؟!.. ما القرار؟!..
إنها «المجازفة» على الحدين..
لكن في لمحة تتسع نافذة إلى السماء, تلك التي لا توصد أبدًا.. حين يأتي قراره هو, هو المسجي في الانتظار, بتكات واهنة, بخفيت نبض قلبه، تتحرك شفتاه: «وكلت ربي فليكن»..
ونعم الوكيل هو, فلتكن المجازفة, إنها إرث ثقة في الوكيل!..
الدقائق مرت ساعات, والساعتان مرتا عمرًا, والأخرى دهرًا..
الممرات الطويلة في المشفى تنهبها ذهابًا, وإيابًا أقدامهم, الجدران المنتصبة كآمالهم التحمت بظهورهم..... القلوب واجفة, والأطراف راجفة..
والعيون مناهل.. والقلوب خوافق..
ومشيئة الرحمن, وضعفهم البشري!!..
تمتمات الابتهال كدبيب النمل تصدر عنها وعنهم معًا, كتسابيح العصافير تعمُّ المكان..
كل أنهار الدنيا صُبت من نبعها..
الانتظار حارق كالمرجل, محيِّر كالمجهول..
لحظاته أقسى من موتٍ بين حدي قطار, وجدار..
وينفرج باب حجرة العمليات, يطل الطبيب, وعيناها وعيونهم التحمت نظراتها عند مفرج شفتيه: «تمت بحمد الله»
نجا قلب محمدٍ..
أما هي فما وعت تمامًا إلا حين تاخم جبهتها حذاء قدم مار في الردهة الطويلة عند باب الحجرة تلك التي رُمم فيها معبر قلبه النقي..
ويدان رؤوفتان كيديه, من صلبه ترفعانها، مع أن تلك اليدين لمَن لم يكن هلعه أقل مما كان بها..
نجا الحبيب, ذو القلب العامر بالنور, والطيبة, واليقين..
نجا حبيب نوَّارة الأول..
فالحمد لله, الحمد لله الذي بلغه يقينه به فسيَّر المشرطَ حيث اليسر..
فالوكيل وعد, وأوفى, ولا أوفى منه تعالى الرحمن رب العالمين
فليتم عليك العافية, ويحفظك في كل حال عديل النفس ما حييت..