د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ربما كانت الزاويةَ الأولى التي احتفى بها صاحبُكم في مطلع قراءاته «الصحفية» قبل أن يدخل هذا العالَم المتقدَ، وكان اسمُها: «مساحة للركض»، ويذكر أنه - بعد متابعتها أشهرًا - حاول النسج على نمطها وفكر حينها أن يشارك فيها إن قَبل محررُها، وما كان على معرفة به أو بأحد في صحيفة «الجزيرة» التي كانت تنشرها ضمن صفحتها اليومية «أدب وثقافة»، ولعل ذلك إبّان إشراف الأستاذ صالح الأشقر - رحمه الله - في أول الثمانينيات الميلادية، لكنه مزَّق أوراقًا دون أن يقتنع بما كتب، وأيقن أن لياقته الكتابية لا تتلاءم مع مفردة «الركض» كما آمن - فيما بعد - أن لياقته الذهنية كما البدنية تتضادان مع «الركض» مبنىً ومعنىً، ومن أخفق في رسمها كلماتٍ لن يفلح في اقتفائها منهجاً.
** مضى الزمن سريعًا فلم يعبأ به وواصل سيره الوئيد ليجد نفسه - وفق مصادفاتٍ أشار إليها في كتابه (سيرة كرسي ثقافي) - مقتعدًا مكان المبدع الأشقر في ظروف لم يكن على دراية بها إثر غربة سنوات على ضفاف المحيط الهادئ، وربما لو كان عنوان الزاوية «مساحة للهدوء» لوجد في ذاته وسماته ما يجعله قادرًا على أن يبعث بمقاله الأول للصحيفة الذي نُشر بعد أعوام بعنوان: «في الصحراء ولا نرتحل».
** اختلف الزمن بإيقاعه وتبدلنا بمواقعنا، وظل الراكضون يجْرون، والمتأنون يتأملون، ومَن بينهما يتسابقون عبر المسافات القصيرة، وربما تعب الراكضون وسئم المتأنُّون وخلت ساحات الظل أو تبدلت فصارت السباقات افتراضيةً عبر تقنيات «السايبرون» الفاتنة؛ فكثر الواردون والصادرون، وصارت الأصابع بديلًا للأقدام، ويكفي أن نقرر لننشر ولا وقت لكي نتأمل أو نحلل أو نعلل أو نستهدي أو نتساءل أو نحاور أو حتى نفكر.
** تعدد الركض بين الواقف والقاعد والنائم والهائم والحالم والغائم والصادم والنادم، وندر حتى التلاشي الركضُ الواعي لمراحل السباق وأشواطه ومسافاته واستراحاته، وخلا الميدان لمن استباحه بلغْوِه وغَلوائه، ولا بأس إن داس على هذا وصدم ذاك وأعاق ثالثًا ورشا حكمًا واشترى ذممًا وحرَّض مصفقين ورفع بيارق الفوز قبل خط النهاية حيث لا أعلام ولا إعلام ولا وجود لقيم السباق ولا شرف الفوز.
** بتنا نقرأ المتغيرات برؤية الانفعال وربما بقصدية الافتعال؛ فالأحداث المتلاحقة أسرعُ من التحليلات وأعلى من التوقعات، وغادر الساحةَ من جمعوا الرؤية والرويَّة إلا قليلًا، وفي مثل هذه الأوضاع فإن التأمل كما التعجل لا يعني غير مساحاتٍ من التيه الحلزوني لا تُعرف بداياتُه ولا تُبلغ غاياتُه، وربما أدركنا يومًا أن «الاتجاهَ أهم من السرعة» كما المقولة الأجنبية.
** الوعي بالمسافة أجدى من اجتيازها.