محمد المهنا أبا الخيل
بعد أشهر من افتتاح تلفزيون القصيم، عام (1968)م, كان بيتنا هو البيت الوحيد في شارعنا والذي فيه جهاز تلفزيون، وبعد صلاة العصر يجتمع لدينا بعض أبناء الجيران لمشاهدة أفلام الكرتون، وذات يوم تشاجرت مع أحدهم ومنعته من مشاهدة التلفزيون فاسترضاني بهدية كانت عبارة عن (طابع بريد)، وكنت قد بدأت في هواية جمع الطوابع، كان الطابع جميلاً يحمل صورة طائر غريب لم أشاهده من قبل وكتب على الطابع (دبي) وسعر الطابع (5 ربيات)، كانت هذه أول مرة أعرف بلداً اسمه (دبي)، ثم أصبحت مغرماً بجمع الطوابع التي تصدرها دبي وعجمان، وأصبحت استمع لإذاعة (دبي) في الليل أحياناً، وكان يشدني صوت المذيع عندما يقول: «إذاعة الإمارات المتصالحة من دبي»، أصبحت دبي في ذهني بلاداً تتمثل لي في قصص (ألف ليلة وليلة) بلاد يكتنفها الغموض والقصص التي كانت بعضاً من الموروث الشعبي، فحين كانت جدتي تذكر لنا قصص (قطن ابن قطن ) أو (سلام ابن عافيه) كان ذهني يتصور دبي كمسرح لتلك القصص الخيالية، و يشاء الله أن تكون رحلتي الأولى خارج المملكة والكويت هي لدبي عام (1975)م، أقلتنا الطائرة الكويتية من مطار الكويت إلى دبي لننتظر فيها يومين قبل أن نستقل الطائرة الهولندية لليابان.
أكتب هذا المقال يوم السبت الموافق للثاني من ديسمبر وهو اليوم الذي تحتفل الإمارات فيه بعيد وحدتها السادس والأربعين، وأتذكر أول يوم لي في دبي عام (1975)م في رحلتنا لليابان كمبتعثين سعوديين وكويتيين للدراسة هناك، وحيث لم نجد فندقاً في دبي بعدما نفدت الغرف المتاحة في (فندق كارلتون) ونقل بعضنا إلى فندق كارلتون الشارقة، كانت دبي في ذلك الحين بلدا صغيرا، في نظري أنها كانت أصغر من مدينتي (بريدة)، وكنت أحاول أن أجد في ذهني صورة دبي الخيالية، التي اختفت فجأة وحل محلها صورة دبي البلدة الصغيرة على جانب الخور الشرقي، كنت أجلس مع بعض الأصدقاء في شرفات غرف فندق كارلتون وأنظر لما أصبح اليوم، مدينة الجمال والإبهار الأشهر في العالم، لم يكن هناك شيء أبداً في الجانب الآخر من (الخور) سوى مبنى الجمارك وبيت الحاكم، وكانت دبي (ديرة) مجموعة بيوت صغيرة تجتمع في صورة أحياء متفرقة ومتباعدة بصورة واضحة، وكثير ما تجتمع تلك البيوتات حول شجرة كبيرة تحتمي تحتها بعض الحيوانات من هجير الشمس، وخلف الكثبان الرملية تبدو بعض البيوت الحديثة في منطقة (هورالعنز)، وكذلك بعض العمارات الجديدة التي تطل على (خوردبي) وتتراءى في البعيد بيوت إمارة الشارقة.
بعد ذلك بسنوات عدت لدبي مرة أخرى عام (1980), وقد تبدلت حالها كثيراً وأصبحت في سباق مع الزمن لتكتسب المركز الذي فقدته بيروت ولم تستطع أن تكتسبه (المنامة)، وهو المركز المالي للشرق الأوسط، كان هناك اتفاق ضمني بين الشيخ زايد بن سلطان والشيخ راشد بن سعيد رحمهما الله، أن تكون أبوظبي عاصمة الإمارات السياسية ودبي عاصمتها الاقتصادية، لذا رأى الشيخ راشد بن سعيد المكتوم بحنكته ودرايته أن يجعل من دبي أول بلد عربي يحرر التجارة ويستجلب الاستثمارات الخارجية، بعد ذلك توالت رحلاتي لدبي بصورة متكررة في كل عام، وكنت أندهش من سرعة التحول في إستراتيجية دبي لتصبح مدينة الملتقى العالمي للاستثمار والتنمية العقارية و التمويل البنكي، وتطلق جبل علي كأول منطقة حرة في الجزيرة العربية ثم تؤسس طيران الإمارات ويصبح مطار دبي وجهة عالمية توازي مطارات لندن وباريس وهونج كونج، وسرعان ما تتحول دبي إلى مدينة التسوق العالمية ومدينة الإبهار بفضل رؤيا أميرها المبدع الشيخ محمد بن راشد، حيث جعل من دبي المدينة التي تنافس نفسها كل يوم لتتحول إلى مدينة تحتل مساحة في كل عقل بشري كمدينة ساحرة. مدينة أصبحت في صدر أولويات السفر كوجهة سياحية لمعظم سكان الكرة الأرضية.
أعاصر دبي اليوم وأنا أتذكر طفولتي عندما كنت أتخيل دبي مدينة السحر والغموض والقصص التي كنت أتخيلها مسرحاً لها، لم يكن خيال ذهني سوى حدس لما أشاهده اليوم في دبي، إنها فعلاً مدينة ساحرة وجاذبة بصورة غامضة ومثيرة.
رعى الله الإمارات وهي تحتفل بيومها الوطني بكل مدنها وبلداتها وجعلها بلاد سلام ومحبة وأمن وازدهار.