مع إطلالة الدورة الدولية الثالثة لمعرض جدة للكتاب، تلتقي أنظار عشاق الكتاب وعشاق العروس، في محفل وطني ثقافي، ومهرجان يتخذ من الأجواء الربيعية فضاء للثقافة، ومن الشواطئ مرافئ لعشاق الكلمة في مختلف المعارف والفنون، ما جعل من عودة معرض جدة في عباءته الدولية حلما للمثقفين والمثقفات في مختلف مناطق المملكة عامة، ولمنطقة مكة المكرمة وما جاورها من محافظات المناطق الأخرى بصفة خاصة، الأمر الذي يجعل من إقامة معرضين دوليين في المملكة تتجاوز دواعي الفرح بعودة كتاب جدة، إلى دواعي التطوير النوعي المستمر، الذي ما يزال محل رهان استمرار دورات المعرض الذي لم يتبق في مضمار مسيرته «التجريبية» سوى محطتين، للفوز برهان قصب سبق البقاء مواصلا إشعاعه المعرفي، من أبحر المكان، إلى بحار الكلمة.
وكما أنه لا يمكن للمعارض (الرديفة) أن تحقق النجاحات نفسها مقارنة بمعارض العواصم عربيا، فليس من المنطقي - أيضاً - تجاهل ما أحدثته الثورات التقنية في مختلف مجالات الحياة ومناشطها اليومية، وما أفرزته وسائطها من تحولات مسكونة بالكثير من الفجوات، التي تنتجها على مستوى الأفكار والقيم والثقافة، التي يأتي في مقدمة تأثيراتها ما تشهده حركة التأليف والنشر، التي ما تزال متشبثة بالقارئ الورقي، في ظل المد الهائل للنشر الإلكتروني، ما يضع الكتاب العربي أمام الكثير من التحديات بدء بالمؤلف، ومنه إلى الناشر، ثم تسويقه، وصولا إلى القارئ الذي تشتت به وسائط القراءة ووسائلها، ما يجعل من معارض الكتاب، قصة من قصص التحدي وضربا من أشكال الصمود في وجه كل هذه التحولات والمتغيرات التي أحاطت بصناعة النشر الورقي إحاطة السوار بالمعصم.
هكذا تتجلى بعض مشاهد متن حضور الكتاب في محافله المختلفة، التي يأتي في مقدمتها معارضه الدولية، إذ ما يزال متن الحضور الورقي متراجعا أمام اتساع مساحة الهامش الرقمي، ما يجعل اليوم من البرامج والفعاليات والورش والأركان التي تقام على هوامش المعارض، هي أولى الأدوات التي لابد من استثمارها أيما استثمار للمحافظة على متن حضور الكتاب كيفا، وكما، وذلك من خلال الاحترافية في تصميم البرامج المصاحبة التي من شأنها جذب مختلف شرائح المجتمع إلى معارض الكتب، في الوقت الذي لم يعد فيه الكتاب قادرا على جذب الكثيرين إليه، ولا جذبهم إلى هوامش محفلياته، ما يستدعي أن تصبح البرامج المصاحبة العمق العملي للتطوير والتجديد والابتكار الخلاق، الذي يتناغم تنوعا حول الكتاب، ويجتمع في ثناياه.
وإذا ما عدنا إلى حجر زاوية هذه المحافل، فلا بد أن يكون الناشر المهني، المشتغل بصناعة الكتاب، أول المتطورين، والمطورين لمتن هذا الحضور، حتى لا يكون أول (المتورطين) في لجة هذا المد من تحولات طرائق النشر، ومتغيرات صناعة الكتاب، ما يجعل من جودة المنتج، وحسن العرض، وتنوع الحضور، واحترافية التسويق، بأسعار منافسة ووسائل تسويقية متنوعة، أول أدواته التي يحلق بها من معرض إلى آخر، لتظل مواسم الكتاب واحات متجددة بما يحفها من ربيع البرامج والفعاليات، التي تتناغم ألوان زهورها في ظلال أوراق الكتاب الوارفة خضرة فكرية، وجمالا إبداعيا.
** **
- محمد المرزوقي