عبدالوهاب الفايز
اليوم الأربعاء يلقي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الكلمة السنوية في مجلس الشورى، والكلمة الملكية تقليد سياسي ينص عليه نظام المجلس ودأب عليه ملوك المملكة منذ تأسيس المجلس، والكلمة السنوية يضع فيها الملك ما يراه في أولوياته الوطنية كقائد، وأيضًا يضع بين يدي أعضاء المجلس ما يراه يهم الناس ويتطلعون إليه.. إنه يضع الأولويات والتطلعات لمجلس الوزراء ولمجلس الشورى للعمل عليها وإنجازها.
الذي يتابع عن كثب أعمال المجلس وعلاقته بالحكومة في السنوات الماضية يجد علاقة إيجابية تعكس تكامل في الأداء السياسي، وفِي تقدير المصلحة العليا لبلادنا؛ وفي الموضوعات والأنظمة التي تطرح للتداول بين المجلسين غالبًا يأخذ مجلس الوزراء (الحكومة) بما يراه مجلس الشورى، وآخرها التعديلات على نظام مكافحة جرائم الإرهاب وتمويله الذي أقر الشهر الماضي. وهذا يعكس الأهمية التي يتمتع بها مجلس الشورى بعد الاطمئنان إلى كفاءة الأداء وعمق التجربة والخبرة لدى أعضاء وعضوات المجلس.
وهذه العلاقة الإيجابية بين المجلس والحكومة مع الأسف أن هناك (البعض) الذي لا تريحه، أو لا يتوقعها.. أو غالبًا يجهلها، (إذا قدمنا حسن الظن)، هؤلاء هم من يروّجون للصورة الذهنية السلبية عن أداء المجلس، وهؤلاء لو بقيت آراؤهم في إطار تداول الرأي لبدا الأمر عاديًا وفي الإطار الذي لا يُستنكر، فليس من الحكمة منازعة الآخرين حقهم في إبداء الرأي وتقديم الأفكار والتصورات، لكن المؤسف المزعج هو في موقف من يذهبون إلى التقليل من الدور أو (إلغاء دور المجلس).
وهؤلاء أحسبهم يصدرون فيما ترجح إليه عقولهم من (عقلية النسف) التي تعاني منها الذهنية التي لم تترب على أدبيات التفكير العلمي الموضوعي، والمؤرخ الأمريكي الفلسطيني الراحل هشام شرابي تطرق بأسى (لذهنية النسف) العربية في كتابه الممتع (المجتمع الأبوي)، ويرى أن نزعة التغيير الكامل ونسف المنجز أدت إلى تأخر المجتمعات العربية وحرمانها الاستفادة من تراكم التجربة والبناء عليها، والمؤرخون الاقتصاديون المصريون علمونا خطورة مشروعات النسف، ويقدمون في هذا الإطار ثورة عبدالناصر في مصر وكيف قضت على المكتسبات الاقتصادية المصرية التي تجمعت في التصنيع والزراعة، فالثورة نسفت بنية الاقتصاد المصري العملاق.. لتبدأ تجربة جديدة لم تخرج مصر من عثراتها حتى الآن!
ورحم الله الملك عبدالعزيز الذي غير شطر بيت الشعر الشهير (نبْني كما كانت أوائلنا... تَبْني ونَفْعل مثلَ ما فَعَلُوا)، إِذ غير (مثل) إلى (فوق)، وهذه هي ذهنية البناء والتفكير الإيجابي الذي قاد الملك عبدالعزيز لتأسيس مشروع الدولة الذي يجدده الآن الملك سلمان، ويبني عليه فوق ما فعل الكرام الأوائل.
الذي نطمئن إليه هو ثقة الملك سلمان وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بأهمية دور المجلس، ولن تتأثر مسيرته إذا جهل البعض دورة أو تعمد آخرون تشويه صورته، ومع الأسف هناك من يحاول الإقلال من دور المجلس لأهداف شخصية مستغلين أمور فرعية أو تعثر التصويت على بعض التوصيات، والمجالس البرلمانية في العالم هي دومًا في المعترك لأنها تتصدى لأمور رئيسة، وتحاول التوفيق بين المصالح أو التعبير عنها، وتنظر للمستقبل، لذا عادة لا يُرضي عملها كل المتناطحين من القلة، وكفاية التشريع غالبًا تستهدف تحقيق المصالح على المديين القريب والبعيد، والمنافع المستهدفة قد لا تراها الناس حاضرة.
وعمومًا المجالس الشورية والبرلمانية تبقى المنتدى المفتوح لتداول الرأي العلمي وأيضًا غير الموضوعي، وعلى الرغم من بعض السلبيات في الممارسة تظل مؤسسات ضرورية لإحداث التوازن في التعبير عن المصالح والآراء.
ومن هذه الحاجة لضرورة تداول الرأي وتوسيع المسؤولية.. هناك من يرى أهمية تعميق دور مجلس الشورى وتوسيعه ليكون مواكبًا للنقلة الكبيرة التي يقودها الملك سلمان لإنشاء حكومة عالية الكفاية، وبناء مجتمع يتطلع إلى المستقبل، ينشغل بالبناء وخالٍ من الفساد، ويبني على مكتسباته السابقة. من مصلحة الحكومة، ومن مصلحة مشروع البناء الجديد (توسيع الدور) لمجلس الشورى ليشمل الرقابة، وهذا معين للحكومة، وتحقيقه هدف إستراتيجي يخدم ولي الأمر في ممارسة الحكم حيث يعطي الفرصة لـ (توسيع الخيارات السياسية) في الأمور والقرارات التي تمس مصالح الدولة.
تجربة الشورى التي أطلقها وتبناها الملك المؤسس تظل من ثوابت الدولة، والملك عبدالعزيز سعى إلى استثمار خبرة وتجربة رجال الدولة وأهل الحل والعقد لأن بناء الدولة لا يتحقق بالأماني، إنما بالمبادرة والحكمة والانفتاح على كل التجارب، الذي يرجع إلى رؤية الملك المؤسس للمجلس الأهلي البلدي أو لمجلس الشورى لاحقًا يدرك أنه كان يستهدف إيجاد رقابة شعبية على السلطة التنفيذية.
رحم الله الملك عبدالعزيز، في كل مناسبة وطنية نقف على الجديد في الموروث الواسع العميق الذي تركه لنا، ومازلنا نتعلم منه.