د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
قضي الأمر الذي كانت الأنظمة العربية تخشاه وتتوقعه وتتمنى من الله أن يتأخر. أعلنت أمريكا (ترامب) القدس عاصمة أبدية لإسرائيل ووجهت بنقل السفارة الأمريكية إليها. ويدرك العارفون بالأمور أن المسألة كانت مسألة وقت فمبنى القنصلية الأمريكية في القدس أضخم من أن يكون لقنصلية وتمكن ترقيته ليكون سفارة في أي لحظة. الأنظمة العربية بالطبع منشغلة بصراعاتها الداخلية أو البينية ولا تملك إلا أن تستنكر وتطالب «المجتمع الدولي» بالوقوف في وجه الأطماع الإسرائيلية، مجتمع دولي للضعفاء فقط لا تعترف إسرائيل ولا أي من الدول القوية به.
سؤال يطرح نفسه: هل سيتوقف الأمر عند تهويد القدس فقط؟ والإجابة لمن يتابع الأمور جيدًا: كلا! فأطماع إسرائيل في المنطقة لا حدود لها، وتقوم على مبدأ أخذ كل ما تستطيع منها حسب الظروف والمراحل. والغرب يراها امتدادًا له ولا يمانع في ذلك، وكثير من الدول الغربية تخشى الأذرع اليهودية التي تسيطر على مفاصل الاقتصاد والإعلام فيها فيما بعد الحرب العالمية. وقد سبق وصرح نتينياهو قبل عقد من الزمن في أوج خلاف مع إدارة كلينتون الأمريكية بأن على الإسرائيليين ألا يخشوا أمريكا فإسرائيل تسيطر على أمريكا وليس العكس. قال هذه الكلام علانية ولم يرد عليه أي مسؤول أمريكي. ولم يتم تهويد القدس بقرار من ترامب ولكن عبر إجراءات فعلية استمرت لعقود سلم فيه مسؤولون فلسطينيون قضيتهم، وكفاح شعبهم، بالكامل لأمريكا واكتفوا بترديد «حل الدولتين حدودهما ما قبل حرب الـ 67ودولة فلسطينية عاصمتها القدس» للاستهلاك الداخلي فقط، ووقفوا ينتظرون منقسمين لعل السماء تجود عليهم بحل.
لا يضيف قرار ترامب للواقع كثيرًا، فالقدس تحوّلت لمدينة إسرائيلية بالكامل منذ اقتحامها دون قتال فيما سمي بحرب الأيام الستة في عام 1967م، حرب الساعات الست حسب خبراء عسكريين آخرين، التي اجتاحت فيها القوات الإسرائيلية ثلاث دول عربية في غضون ساعات نتيجة لخيانات مختلفة في قيادات بعض الجيوش العربية. دخلت القوات الإسرائيلية القنيطرة في الجولان، مثلاً، أكبر موقع محصن في تاريخ الجيوش الحديثة، من دون طلقة واحدة وكأنما هم في رحلة سياحية، والثمن تسليم حكم سوريا لمدة أربعين عامًا لحافظ الأسد ليسهر على حراسة الحدود الإسرائيلية وينهب الثروات السورية بحجة الاستعداد لحربها. قس على ذلك مقاومات العرب لإسرائيل.
شرعت إسرائيل في تهويد القدس في اليوم الأول بعد دخولها واستمرت في بناء المستوطنات وتأكيد سيطرتها على المدينة وبقي ما تبقى من الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين يبيعون التذكارات للسياح الأوروبيين، واكتفي العرب بترديد ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة قولاً، ويسيطرون خطابات المطالبات والشكاوى للأمم المتحدة فعلاً. دعم العرب الفلسطينيين بداية بالمال والسلاح من أجل فتح جبهة مقاومة تستنزف إسرائيل، وانقسم الفلسطينيون لمنظمات فلسطينية بكل شكلٍ وتوجه: قومي، إسلامي، وشيوعي، شيوعي روسي، شيوعي ماوي الخ. وفشلت قضيتهم المصيرية في جمع كلمتهم. اختلف الفلسطينيون من ساعة الصفر الأولى للمقاومة. مُنح الفلسطينيون جبهة عريضة في الأردن لمقاومة «الكيان الصهيوني المغتصب للأراضي الفلسطينية»، فأداروا ظهورهم لإسرائيل ووجهوا بنادقهم نحو المملكة الأردنية لتغيير نظام الحكم فيها تحت شعار: الطريق للقدس يمر بالعواصم العربية!! ومارس الفلسطينيون أشكال مختلفة من الابتزاز تحت هذا الشعار للأنظمة العربية. قضي على الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن عام 1970م بعد حرب ضروس، وانتقلوا للبنان حيث كان المد القومي في أوجه في بيروت ودعمهم اللبنانيون، فارتدوا على لبنان وتبجح بعض قادتهم بأنه هو من يحكم بيروت، وحكموها فعلاً، وأخرج الفلسطينيون من لبنان في عام 1982م بعد حرب مع اللبنانيين تفوق شراستها حربهم في الأردن طلب فيها بعض اللبنانيين، بعضهم حلفاء الفلسطينيين السابقين، مساعدة إسرائيل التي احتلت بيروت وأخرجت الفلسطينيين منها. وانتهت بذلك المقاومة المسلحة الحقيقية لإسرائيل وانضم الفلسطينيون إلى جوقة الأنظمة العربية في استجداء الحلول من المنظمات الدولية، ولاموا جميع العرب والمسلمين ونسوا لوم أنفسهم. طيلة هذا التاريخ لم تتوقف عملية تهويد القدس.
القدس في ذمة التاريخ اليوم وهي عاصمة بحكم الواقع لإسرائيل حتى ولو أنكرنا ذلك، وقرار ترامب شكلي فقط ولكن السؤال المخيف يتعلق بما يلوح في الأفق وهو: هل ستكتفي إسرائيل بالقدس، وهل ستتوقف أطماع إسرائيل عند الاعتراف بها عاصمة لها؟ لا أتوقع ذلك فالتاريخ علمنا ألا حدود لأطماع إسرائيل، وأنها كالضبع تلتهم أي ضعيف تجده في طريقها.