لبنى الخميس
في دراسة مثيرة أجرتها جامعة كولومبيا على أطفال من عرقين مختلفين الأمريكي والآسيوي، قسموا إلى مجموعتين: الأولى كان لها حرية اختيار رسمة من بين مجموعة رسمات وحرية اختيار ألوانها، أما المجموعة الأخرى، فقد أخبر أطفالها بأن رسماتهم وألوانها قد تم اختيارها مسبقاً لهم من قبل أهاليهم. المفأجاة كانت أن أداء المجموعتين قد تفاوت بشكل صارخ بين الأطفال بحسب العرق! فلما عرف الأطفال الأمريكيون أن آباءهم كان لهم دور في اختيار الرسمة انخفض أداؤهم بشكل واضح بل شعر بعض منهم بالخجل من هذا التدخل، بعكس نظرائهم الآسيويين الذين أبدعوا في تلوين الرسمات التي تم انتقاؤها من قبل أهاليهم.
والتفسير في ذلك، يعود إلى اختلاف مفهوم (الاختيار) بين الثقافتين، فالثقافة الأمريكية تمنح صفة التمجيد للخيار الفردي بينما تَقرِن الثقافات الآسيوية نجاح الاختيارات الفردية بمدى توافقها مع اختيار الأهل وقبول المجتمع. أما في مجتمعنا العربي فنعيش حالة تناقض في الحكم على شجاعة الخيار الفردي وهيبة الخيار الجمعي، حتى في أمثالنا نردد «كل على ذوقك والبس على ذوق الناس» فنحن ننظر بعين الإكبار للخيار الجمعي ونؤيده لكي نحصل على قبول ورضا المجتمع، بينما نتوق للخيار الفردي ولو سراً ونكبر شجاعة وجرأة هؤلاء الذين يقدمون عليه.. كافح وخذ البنت اللي تحبها، بدأ حياته كطباخ أو سمكري ولم يأبه برأي المجتمع.
المعتقد الثاني غير الدقيق حول عملية الاختيار يتجسد في المثل اللي يقول «إذا تبي تحيره خيره» لما تظن بأن كثرة الخيارات تمنحك عملية اختيار أفضل. وهو ما تخالفه الدراسات التي أثبتت أنه كلما زادت خياراتك قلت نسبة رضاك عن خيارك النهائي.. لأن فرصة تفويتك للخيار الأصوب تصبح أعلى ونسبة الندم أو الذنب ترتفع. فكر معي، ما هي نسبة إحساسك بالرضا أثناء اختيارك من قائمة طعام سخي بالخيارات فيه الدجاج المشوي والسمك المشوي وستيك اللحم، وأنت من عشاق اللحوم المشوية لكن لازم تختار طبق واحد فقط؟
لا شك أنك وأنت تمضغ قطعة ستيك اللذيذة بنسبة شواء «ويل دون»، جزء من عقلك لازال يفكر في نكهة صحن السمك المشوي مع صوص الليمون الذي لم تختره.
صحيح، كثيراً ما تدفعنا مشاعرنا.. وتقودنا ظروفنا.. للارتباط بذلك الشريك.. والإقامة في تلك المدينة.. والانتقال لتلك الوظيفة.. دون أن يكون لنا قرار واضح فيها.. لكن تأكد بأن ذلك الخيار لم يكن بمنأى عن خيارات سابقة.. فالخيارات سلسلة متصلة يربطها خيط رفيع تشتد سماكته مع مرور الزمن.. فكن واعياً بأن كل خيار ستأخذه دون غيره سيجرك بوعي ودون وعي لدائرة مشابهة من الخيارات.. وأن عدم اختيارك أحياناً هو خيار مصيري بحد ذاته.
أخيراً.. بعض الخيارات تحررنا، وبعض الخيارات تكبلنا.. بعضها صادق يعكس عمق رغاباتنا وغاياتنا في الحياة.. وبعضها كاذب ومزيف يقوم به الآخرون عنا.. حين يبدأ مسلسل التنازلات ابتداء من ماذا سترتدي هذا المساء، وصولاً لأي تخصص يطلبه سوق العمل، وانتهاء بسطوة المقاييس الاجتماعية في اختيار شريك الحياة، وطريقة تربية الأبناء، بل وحتى أسلوب الحياة الذي يجب أن تتبناه.. لكن يظل الثابت الوحيد هو أن الاختيار ليس الجزء الأصعب.. بل قرار قبوله.. ورحلة التعايش معه.