عبد الرحمن بن محمد السدحان
لم يكن أدب السيرة الذاتية زاداً لي ولا هدفاً ولا متاعاً، وما كنتُ أفكر ولو على رموش الحلم، أنني سأكتب يوماً نصاً يمكن أن يوصف بالسيرة الذاتية وذلك لعدة أسباب، منها:
1 - لم أكن مقتنعاً بدْءاً بقدرتي على خوض تلك التجربة القاسية..والغوص في مجاهل الذاكرة وأسرارها بحثاً عن مادة تستحق التدوين!
2 - أن (النَّبش) في رُفات الماضي ليس أمراً (محبباً) لدى بعض البشر، وأنا أحدُهم، لأن في هذه الرفات (جرُوحاً) لم تندمل بعد، وأوجاعاً لم (يفصحْ) بها اللسانُ قط أو (يَصفحْ) عنها الوجدان!!
3 - كنت أخشى من (تربص) (عثّة النسيان) لي، فأذكر غير المهم عن هذه السيرة و (أنسى) ما هو أكثر أهمية وصواباً!
* *
رغم ذلك كله، كان يلازمني شعورٌ داخلي بالتحدي لنفسي، والدخول في لجة التدوين لبعض مواقفها: انتصاراً وانكساراً، ونجاحاً وفشلاً! ومن هذا الموقف وحده، تعلّمت درساً ثميناً، هو أن من أهم مُتَعِ الحياة أن يكون لصاحبها تحدّيات ترسم مسار المواجهة معها، فإن أصاب فنعمَّا هي، وإن أخطأ.. اتخذ من ذلك عبرة تضاف إلى رصيد المعرفة شئوناً وشجوناً!
* *
وذات مساء من صيف عام 1425هـ شعرت برغبة عارمة في التصدّي تدويناً لبعض من ذكريات الأمس، بحُلوِها ومرِّها، وساعد على ذلك (حملةُ التحريض) على ذلك من لدن بعض المحبين، ممن عاصروا جزءاً من إيقاعات تلك الذكريات، يتقدمهم صديق العمر (الراحل) معالي الدكتور غازي القصيبي، طيب الله ثراه، الذي أغْرقتُ سمعَه ووجدانَه، ببعض أحاديث الأمس وآهاتِه وابتساماتِه!
* *
وقد حمله إصرارُه على تدوين سيرتي أو شيء منها كتابةً أن أقسَم ذات مساء من صيف عام 1425هـ، لئن لم أبدأ في تدوين مخزون الخاطر من ذكريات الأمس، فإنه سيقوم بذلك (نيابةً عني)!،لأنه كما قال لحظتئذٍ، قد سمع مني ما يفي بتنفيذ تلك المهمة. وما أصدقُه قولاً في ذلك! لأن الخالق سبحانه قد منحه (ذاكرة) لا تُخِلّ بما تكنّه تسريباً ولا نسياناً! ووجداناً لا يخْوُن صاحبه إخفاقاً!
* *
غادرتُ مقرّه عائداً إلى (صومعتي) في قصر المؤتمرات بمدينة جدة، ونفسي تحدثني بأن (لحظة الصفر) قد حلَّت، ولا بد لي من الشروع في تدوين سيرتي، أو جُزْءٍ منها، بدْءاً من ذلك المساء. وهكذا كان، ولمدة ثلاثة أشهر تقريباً، تمكّنتُ من إعداد (مسودتي) الأولى لتكون مشروعاً لما يمكن أن يُسمَّى اصطلاحاً (سيرة ذاتية). وقبل ذلك، كان لا بدّ لي أن أزفَّ نبأَ (ولادة مشروع تدوين السيرة) إلى المحرِّض الأوّل، أبي يارا غازي، والتمسْتُ منه أن يكتبَ (مقدمة) النص حال الانتهاءِ من إعدادِه، فرحّبَ بذلك والتزم، ولسان حاله يقول في صمت: (أرني أولاً ماذا تصنع)!
* *
وهكذا أنجزت بفضل الله ما وعدته به، وأنجز هو وعده لي صادقاً، فجاءت (مقدمته) تاجاً يزيّن جبينَ الجزء الأول من السيرة، التي أطلقت عليها هذا العنوان: (قطرات من سحائب الذكرى)، واشترك وحيُه الوجداني والشاعري معاً.. في اختيار ذلك العنوان!
* *
وبعد.. فليس أقسَى على المرء من أن يتصَادم مع الخوف من الفشل، فيسَتجيبَ لوِسواسه الخنّاس، خوفاً من النقش على جدار الصمت، ثم يُحجم عن منح نفسه متعةَ التجربة بالحديث مع الذات وعنها، و(النبش) في ركام الذكريات عما يستحقُّ الذكر، لأنَّ النفسَ (مقْبرةُ) العمر، إليها يلجُ كلُّ دقيق وجليل، فتسدل عليه ستار الصمت ربّما حتى حين!!