ياسر صالح البهيجان
مدينة القدس ليست مجرّد بقعة جغرافيّة لا تتجاوز مساحتها 125 كيلومترا مربّعا، وليست مجرد أرضٍ تلتف حولها أشجار الزيتون المباركة، ولا رقعة جغرافية تضم مسجدًا تاريخيًا، وإنما هي أوّل قبلة صلّى نحوها المسلمون قبل أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام، ومسرى نبينا الكريم في ليلة الإسراء، ومنها عُرج به إلى السماء في رحلة المعراج، كما أن المدينة وفق الروايات التاريخيّة الإسلامية كانت مُنطلق رسالات الأنبياء الكرام داود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام.
المدينة ذات بُعد وجداني عميق لدى عموم المسلمين، والجدل حول أهميتها كمدينة إسلامية مقدسّة يُعد جدلاً بيزنطيًا، ولا يخلو من جهل إمّا بالنصوص الدينية الثابتة أو بالقراءة المتأنية للتاريخ الموثّق والحقيقي، وليس من المنطقي أن يؤيّد مسلم كامل الأهلية خطوات تهويد القدس بأية ذريعة كانت، لذا فإن قرار الحكومة الأمريكية بنقل سفارتها من تل أبيب إلى مدينة القدس كان مرفوضًا بإجماع المجتمعات العربية والإسلاميّة.
رغم ذلك أفرزت الأزمة الراهنة ثلاثة أنماط من الشخصيّات العربية والإسلامية غير المتزنة، تبنت خطابًا نشازًا يبرر انتزاع مدينة القدس من رحمها الإسلامي وغرسها في الجسد اليهودي المحتل، وتمثلت تلك الشخصيات في المثقف الأعوج والانهزامي الأهوج والمدلّس الأخرق.
المثقف الأعوج يعتقد بأن مبادئ حرية التعبير والتنوير المزعوم تمنحه الحقّ في افتراض أن اليهود أيضًا بإمكانهم ادعاء ملكيّة الأرض أسوة بغيرهم من أتباع الأديان الأخرى، معتقدًا بأنه يقف على مسافة واحدة بين أتباع الديانات المختلفة، لكن منظوره المعوج يغفل عن إنصاف الشعب الفلسطيني المهجّر من أرضه، ويتناسى الإرث الإسلامي الأصيل في تلك المنطقة وهويّة الأرض العربية، وهو يشرعن لاحتلال آثم بحجج ظلاميّة ترتدي لباس التنوير الزائف.
أمّا الانهزامي الأهوج فهو شخصيّة تعاني من حالة يأس وقنوط إزاء ضعف الأمة العربية والإسلامية، لذا يرى في تهويد القدس أمرًا منطقيًا، يقترح مبدأ القبول بالواقع وإن كان مرًا دون تحريك أي ساكن، وتلك الشخصيّة موغلة في السلبيّة والانهزام، ويقود الأمة إلى المزيد من الهزائم بعقليته القاتمة.
والشخصية الثالثة هي المدلس الأخرق الذي يتبنى الإسرائيليات والقصص التاريخية المكذوبة لتأكيد أحقيّة اليهود في احتلال الأرض المباركة، هي شخصيّة اعتادت التبرير لسلوكيّات الآخرين العدوانية من أجل قبول حالة الخنوع والإذلال، ولا شك أنها تمثل خطرًا على تاريخ الأمة الحقيقي، وتمنح العدو شرعيّة زائفة قد تجعله يستمرئ الظلم والاضطهاد.
أخيرًا، ستبقى مدينة القدس إسلاميّة في هويتها وجذورها، وستظل عربيّة وعزيزة وإن خذلها بعض العرب والمسلمين. هي جزء من تاريخنا المجيد، وإرثنا الذي سنبقى أوفياء له، وستتوارثه الأجيال منّا جيلاً بعد جيل حتى يرث الله الأرض ومن عليها.