حمّاد السالمي
* الإمام أحمد بن حنبل الشيباني الذهلي- (164- 241هـ - 780- 855م) كما يروى عنه؛ قال عكس هذا في زمنه. قال: (لا بد من صنعاء ولو طال السفر). كان يتمنى ربما؛ لقاء فقهاء وعلماء يسمع عنهم، خاصة في اللغة العربية. لكن حال أهل اليمن اليوم وأمس يقول بغير هذا. تكفي مشاهدة واحدة لشعب عربي عريق مشتت يتعرض للخوف والجوع والمرض صباح مساء، وقراءة ما توحي به الوجوه في مدن وقرى وجبال وأودية اليمن وكأنها تقول: (لا بد عن صنعاء ولو طال السفر)..! السفر عنها وليس إليها.
* لقد ظلت اليمن طاردة لأبنائها منذ فجر تاريخها الأول. كأن هناك انفصامًا بين المكان والمكين. بين الإنسان والجغرافيا. شكّل سد مأرب الشهير في تاريخها وتهدمه أمام سيل العرم زمن مملكة سبأ؛ مفصلاً في علاقة الإنسان اليمني بأرضه حتى يوم الناس هذا. لا تكاد بقعة في العالم تخلو من مهاجرين يمنيين؛ تركوا أرضهم التي ولدوا فيها وترعرعوا في جبالها ووديانها إلى غير رجعة. التغريبة اليمنية منذ مئات السنين؛ هي الأشهر والأظهر في تاريخ البشرية. هجرة الحضارم وحدها؛ دليل صارخ على الغربة التي عاشها وما زال يعيشها اليمنيون. غربة يمكن أن يُعزى إليها بقدر ما من المعقولية؛ نجاح اليمني وعطائه الحضاري في مهجره، وتردده أو تخوفه ثم فشله من مثل هذا في بلده الأم. هذه نظرة يمكن أن تكون مؤلمة إلى حد ما؛ لكن أعطوني مرحلة واحدة في تاريخ اليمن القديم والحديث؛ كانت آمنة وهادئة؛ وكافلة لحياة مستقرة؛ دافعة للبناء والتحضر الخالي من الصدام والعبثية، ومن حياة الحاكميات القبلية المشوبة بالخيانات والثأرات والتآمر المتبادل بين هذه القبيلة وتلك.
* هذه حالة في صورتها القبلية لا تختص بها اليمن دون غيرها. كانت موجودة بصورة أو بأخرى في جوارها العربي؛ حتى جاء الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، فأرسى قواعد التحضر والبناء وفق مفاهيم العصر الحديث. وهي ماثلة حتى اليوم في دول آسيوية وإفريقية، مثل أفغانستان والباكستان وتشاد ومالي وغيرها، لكنها ما زالت شاهرة ظاهرة في اليمن، ومع أن هذا المشكل كان السبب الرئيسي في قيام الثورة والتحول إلى الجمهورية قبل خمس وخمسين سنة؛ إلا أن الحال ظل كما هو دون تغيير يذكر، بل زادت معاناة الناس، واحتدت العداوات فيما بينهم، وبقيت حالة الطرد والهجرة على حالها كما كانت أول مرة، وأشد في حالات الفتن والاحتراب بين أبناء المجتمع الواحد.
* حالة الانفصام هذه بين الإنسان وجغرافيته؛ سهلت ذات يوم الترحيب بأبرهة الأشرم الحبشي غير العربي، وبناء كعبته (الغليس) في صنعاء، ثم دعمه عسكريًا لهدم الكعبة العربية في مكة، وهي التي انقسمت بعد ذلك حول الحكم الحبشي لليمن إلى فرقتين، فرقة حاضنة ومؤيدة، وأخرى رافضة لهذا الوجود الأجنبي، فسعت الأخيرة لطلب النجدة من الفرس للخلاص من الأحباش..! كالمستجير من الرمضاء بالنار..! فحل الساسانيون حكامًا لليمن بدل الأحباش، برضى أهل اليمن أنفسهم، وبطلب منهم.
* الصورة تتكرر اليوم في اليمن، الذي لم يكن سعيدًا في يوم من الأيام. عندما نشب الخلاف بين الجنوب والوسط والشمال؛ عقب الثورة على حكم علي عبدالله صالح، حضرت القبيلة، وبرزت الجغرافيا الطاردة مرة أخرى. حتى الحكومة التي جاءت طرفًا ثالثًا في الصراع، هاجرت من أرضها هربًا من الموت. وظل الطرف الثاني في صنعاء؛ يمانع ويناور، ويلعب على كل الحبال الممكنة كما هي عادته، بينما ارتمى الطرف الثالث إلى أحضان الفرس من جديد، على حساب أرضه وعروبته وأصله وفصله.
* رافعوا رايات فارس في أرض اليمن؛ قتلوا رئيسهم السابق علي عبدالله صالح ومثلوا بجثته. هذا أمر طبيعي عند من بحت حناجرهم بشعارات كاذبة من مثل: (الموت لإسرائيل.. الموت لأمريكا)..! بدليل أنه لم يمت برصاصهم الطائفي لا إسرائيلي ولا أمريكي واحد..! الذي مات ويموت بأيديهم كل يوم، هم الآمنون من شعب اليمن، والقتلة يرقصون فرحًا لأنهم غدروا بعلي عبدالله صالح ومثلوا به..! وهو الذي حكمهم ثلاثاً وثلاثين سنة عجافاً، كان فيها يمارس لعبة الغدر والخيانة مع الأقربين والأبعدين لضمان بقائه.
* إنه.. إذا كان هناك من حسنة وحيدة تذكر للرئيس علي عبدالله صالح؛ فهي أنه قبيل قتله بثمان وأربعين ساعة، عاد إليه وعيه، فأيقظ في أحرار الشعب اليمني الروح العروبية التي فقدوها مع ظهور مليشيات الحوثيين المجوسية منذ انتمائهم لإيران، وارتمائهم في أحضانها عقائديًا وسياسيًا وعسكريًا.
* هل تتحول هذه الجذوة التي أوقدها الرئيس المقتول إلى صحوة يمنية حقيقية؛ تشمل الأحرار اليمنيين كافة، وتنقذ اليمن من الاستعمار الثالث الذي جلبه له الحوثيون في العصر الحديث..؟ أم تظل عاصمته صنعاء كما قال شاعرها عبد الله البردوني ذات يوم:
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟
مليحة عاشقاها: السل والجرب