د. محمد عبدالله العوين
تعهد الرئيس الأمريكي ترامب في حملاته الانتخابية بنقل سفارة أمريكا من تل أبيب إلى مدينة القدس، ليس في الضفة الغربية الخاضعة للهيمنة الإسرائيلية؛ بل إلى الضفة الشرقية التي احتلتها إسرائيل عام 1967م ولكن العرب والمسلمين والعالم لم يسلموا باحتلالها الأماكن الإسلامية التي يضمها القسم الشرقي من المدينة، وهي على سبيل المثال المسجد الأقصى الذي كان أول قبلة للمسلمين قبل أن تحول القبلة إلى مكة المكرمة وبني في عهد عبد الملك بن مروان، وقبة الصخرة التي أسري منها رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وبنى القبة المذهبة على الصخرة ومسجدها وأكمل تزيينها بالتذهيب ابنه الوليد بن عبد الملك، والمسجد القبلي الملاصق للمسجد للأقصى، ومسجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي بني مقابل كنيسة القيامة في الموضع الذي صلى فيه الخليفة عمر صلاتي الظهر والعصر حين ذهب إلى القدس ليستلم مفاتيح المدينة ويكتب « العهدة العمرية» للنصارى عام 15هـ وحين حلَّ وقت صلاة الظهر خرج لأدائها مع العصر جمعاً وقصراً في الأرض المواجهة للكنيسة، وحين سأله القساوسة عن ذلك قال ما معناه: خشيت أن يتخذ المسلمون من صلاتي في الكنيسة سبباً لمنعكم من أداء شعائركم فيها، وما بيننا من اتفاق يؤكّد على ممارستكم ديانتكم بكل حرية. ويتواجه الهلال والصليب في مسافة متقاربة لا يفصل بينهما إلا عرض شارع بأمتار محدودة ليرسمان معاً صورة زاهية لمعنى التسامح والتعايش بين الديانات في الإسلام. ويضم القسم الشرقي من القدس أيضاً جبل المكبر، وهو الجبل الذي أطل منه عمر بن الخطاب على القدس برفقة خادمه وكبّر وحمد الله على وصوله لإتمام تسليم القدس إلى المسلمين بناءً على طلب أكابر مدينتها من رجال كنيسة القيامة.
ولو عدنا إلى التاريخ البعيد فإن أول من بنى مدينة القدس وسكنها هم العرب اليبوسيون قبل الميلاد بخمسة آلاف عام، ثم سكنها اليهود قبل الميلاد بألف سنة بعد أن فتحها النبي داود وحكمها ثم ابنه سليمان - عليهما السلام - وهي أيضاً مدينة مقدسة عند النصارى لاعتقادهم بأن المسيح عيسى بن مريم - عليه السلام - صلب على إحدى تلالها - كما زعموا - وهو ما يتنافى مع ما ورد في القرآن الكريم الذي ينفي صلبه {بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ}.
لذلك فإن من الحكمة بناء ميثاق سلام لهذه المدينة يضمن التعايش بين المسلمين والنصارى واليهود بحيث يحتفظ المسلمون بالأماكن المقدسة ويرعونها ويحمونها من أي اعتداء، ويمارس أصحاب الديانتين الأخريين طقوسهما حسب معتقداتهما في أماكن تعبدهما دون مبالغة في ادعاءات باطلة بتداخل الأماكن الدينية، كما يفعل المتعصبون من اليهود بما يطلقونه من زعم بوجود هيكل سليمان تحت قبة الصخرة، وهو ليس إلا ادعاءً مقصوداً يُراد منه هدم القبة وإخفاء معالمها الإسلامية.
قرار الرئيس ترامب يناقض قراري مجلس الأمن 476 و478 الصادرين عام 1980م المعارضين ما قرَّره البرلمان الإسرائيلي في 31 يوليو 1980م بما أسماه قانون «أساس» ونصه «القدس عاصمة إسرائيل».
فما أصدره ترامب يخالف إجماع دول العالم ويستجيب لرغبة إسرائيلية ومدفوع بمصالح ذاتية لترامب تتصل بوعوده التي أطلقها في حملة الانتخابات سعياً لوصوله إلى كرسي الرئاسة، وهو الآن يبني مواقف مؤيّدة لليهود كي يحظى بدعمهم للحصول على فرصة ثانية لحكم أمريكا.
سيشعل هذا القرار الأحمق المتعجّل وقدة الصراع والحروب في المنطقة والعالم، وسيقوّض الخطوات السابقة التي تمت لتوقيع اتفاقية سلام مبنية على دولتين فلسطينية وإسرائيلية بالعودة إلى حدود ما قبل 1967م.
لقد استغل ترامب حالة الانقسام والفوضى في المنطقة والتغوّل الفارسي في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، وكأنه أراد أن يكمل سلسلة الهزائم العربية المتوالية باحتلال خامس مدينة عربية وهي القدس؛ ولكن من قبل إسرائيل هذه المرة مؤيّد من أمريكا أكبر دولة في العالم وراعية السلام المزعومة.