(1) - بنبل رائع استأذن عراب سوق المال معالي الاستاذ جماز السحيمي عائلته وأقاربه وأحبابه وأصدقاءه بدماثته المعهودة وسلوكه المعروف وأخلاقه الراقية وانسحب من حياتنا اليومية، ليلبي نداء رب العالمين، بعد مواجهة شجاعة مع المرض.
يبدو أن هذا الزمن المضطرب الذي يتنفسه ويعيشه عالمنا العربي منذ سنوات عديدة، لم يعد زماني ولا زمانه ولا زمان كل إنسان وطني شريف، لذا آثر فقيدنا الانسحاب بكرامة وهدوء وكبرياء.
«لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إِنسان
هذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان»
(2) - لست في وضع لأكتب سيرته الذاتية، ولكن استأذن القارئ الكريم لأقرر بأن الفقيد جاء إلى السوق المصرفية والمالية بروح الشاب الوطني المندفع، حاملاً معه أحلامه الكبيرة.. حيث بدأ مع فريقه المؤهل الاستشعار والبحث والتدقيق والعمل بصمت لافت على بلورة ومراجعة السياسات واللوائح والأنظمة والإجراءات المصرفية والمالية، ومكننة السوق المالية لكي يتمكن وفريقه من المتابعة والمراجعة والمراقبة والتحليل والتوجيه واتخاذ القرار.
قاد التغيير المصرفي والمالي بتيار وروح الشباب والعلم والمعرفة والأرقام والحجة والمنطق.. وبدعم كبير من صاحب القرار.. مما مكنه وفريقه المهني من تحقيق عديد - وليس الكثير- من إستراتيجيته وأهدافه وطموحاته الوطنية وأحلامه الكبيرة..
«مضى الذي كان في البلوى يعزينا
وكان يحيي إذا ماتت أمانينا»
(3) - حينما تفاجأت برحيل (جماز) وسفره إلى جوار ربه ورد إلى ذهني وأحاسيسي شريط مضيء مكتوب بزفرات وآهات ودموع أحبابه وأصدقائه يشير إلى (مغادرة رجل الدولة، عراب السوق المالية، قائد مكننة البنوك، صاحب الضمير الحي الذي يتصف بحس وطني خلاق، وأخلاق وقيم ومبادئ شريفة نزيهة.. ).
كان الفقيد مثالاً للإنسان العربي المتحضر ونموذجًا للرجل المهني المصرفي القادر على التمييز بين ما هو عام أو خاص..
«يا راقدًا قد بات في مثوى
بعدت به الدنيا وما بعدا
لكن حزني لو علمت به
لم يبق لي صبرًا وجهدًا»
(4) - كنت حاضرًا ذات مساء في مجلس أحد الأصدقاء حينما دخل علينا (جماز) فبادره بالحال (غازي القصيبي) بما معناه: لقد كانت مدافع وسموم الهجوم موجهة لي من تجار الحرف والقلم، أما الآن يا أبا سلمان فإن نيران ورياح هذه السموم السيئة بدأت بالاتجاه لك، فكان الله في عونك وعون فريقك.
لم يكن فقيدنا (القصيبي) راضيًا على الإطلاق مما أصابه أو أصاب فقيدنا (جماز) من هجوم مبرمج محبط.. مما جعله يختم حديثه الطويل بقول الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ .
لقد تربع على كرسي هيئة السوق المالية عديد من المسؤولين الذين أثنوا كثيرًا على ما قام به الفقيد من إنجازات ملموسة.. إلا أنني وقفت متأملاً أمام ما جاء على لسان معالي وزير المالية الاستاذ محمد الجدعان بأن: (يستحق أداء معالي الأخ جماز نصب معلم تذكاري بمبنى هيئة سوق المال يخلد ذكراه..).
كم تمنيت تحقيق ذلك..!
«وإن مضيت فقولي: لم يكن بطلاً
لكنه لم يقبل جبهة العار»
(5) - واجه قدره بإيمان وصبر كبيرين، وكان يحاول أن يكسو صوته قدر كبير من البهجة، حتى يشعر مستمعيه أنه بخير، كان دائمًا قويًا ومتفائلاً ومحبًا.
كان في رحلة علاجه الأخيرة التي امتدت لعدة أشهر يتحدث إلي في الهاتف ويناقش كل الموضوعات بحماسه المعهود ورغبته في الوقوف على كل ما يجري في وطننا الغالي، وكان يحلو له الحديث عن النخيل والتمور وكل ذرة من تراب الوطن...
هذا الوطن الذي احتضنه طفلاً غضًا وشابًا يافعًا أبى إلا أن يعود إليه ليلقى وجه ربه على أرض الوطن الذي أحبه وقدم له زهرة شبابه وخلاصة علمه وخبرته على مدى سنوات طوال.
«مشيناها خطًا كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطًا مشاها
ومن كانت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها»
(6) - لقد ترك لنا إرثًا جميلاً ملموسًا من الإنجاز الوطني والعلاقات الإنسانية المتينة الراقية، لذا فإن المسؤولية الملقاة على عاتق أحبابه وأصدقائه كبيرة لتخليد اسمه وذكره، وتوثيق سيرته الذاتية وإنجازاته الوطنية..
أناشد قيادتنا الحكيمة الرشيدة بتوجيه المسؤولين المعنيين بإطلاق اسم الفقيد على المعهد المصرفي التابع لمؤسسة النقد العربي السعودي ليصبح اسمه (أكاديمية جماز السحيمي المصرفية)..
لقد كان للفقيد وكل فريقه المهني الدور الأكبر في إنشاء ورعاية هذا المعهد ومناقشة فكرته وإستراتيجيته إلى أن أصبح الآن مدرسة مصرفية مشهودة مشهورة يشار لها بالبنان..
إن هذه الرغبة ليست أمنيتي وحدي إنما هي رغبة وأمنية أفراد فريقه والكثير من المصرفيين والأكاديميين ورجال المال والأعمال والفكر وأصدقاء الفقيد..
«وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يحور رمادًا بعد إِذ هو ساطع
وما المال والأهلون إلا وديعة
ولا بد يومًا أن ترد الودائع»
** **
- بقلم: صالح العذل