د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا يخلو علمٌ من مشكلات تواجهه، ولا يبرأ فنٌّ من معضلات تعرقله، تؤدي إلى عدم قدرته على القيام بوظيفته، وعجزه عن تحقيق أهدافه؛ ولهذا تتوجه جهود المتخصصين إلى تشخيص هذه المشكلات والمعضلات، ومحاولة فهمها واستيعاب أعراضها، ومن ثم السعي إلى إيجاد الحلول النظرية والتطبيقية التي يُتوقَّع أن تتجاوز هذه الإشكاليات، حتى يمكن لممارسي العلم أو الفن، متخصصين وموهوبين ومتلقين، أن يفيدوا منه، وأن يجدوا فيه ما يروي ظمأهم، ويحقق مبتغاهم.
وفي مجال نقدنا العربي تحدث كثيرون عن هذه المشكلات، وشخَّصوها، وأشاروا إلى واقعها وخطورتها وطريقة تجاوزها.. ولعل مِن أوجز هذه الإشارات ما ذكره الشاهد البوشيخي في سياق تقديمه لإحدى الرسائل العلمية المتخصصة في المصطلحات النقدية؛ إذ يقول: «إنَّ النقد العربي يشكو من معضلات ثلاث، أولاها: معضلة النص، وتتمثل في غياب عدد من النصوص المكونة للمتن النقدي في تراثنا حتى الساعة، سواء كان هذا الغياب غياباً كلياً، كما هو الحال في عدد من النصوص المهمة المخطوطة، أو النصوص المتناثرة في بطون كتب لا تزال مخطوطة، أو كان جزئياً كما في النصوص المتناثرة التي لـمَّا تُجمع، أو النصوص التي أُخرجت، ولكن لـمَّا تُخرج الإخراج العلمي؛ إذ ينقصها التوثيق أو التحقيق أو التكشيف.. وكل ذلك ضروري للإعداد العلمي للنص في اتجاه حركة شاملة لإعداد التراث جملة، ليُقوَّم التقويم الصحيح، ويُوظَّف التوظيف الصحيح، في غد علمي مشرق بإذن الله تعالى.
وثانيتها: معضلة المصطلح، وهي أيضًا معضلة متشعبة، من وجوهها الكبرى المعضلة السابقة؛ لأنَّ قاصمة الظهر بالنسبة للمصطلحين هي النص غير المعد الإعداد العلمي، مما جعل ألفاظاً كثيرة تُصحَّف أو تُحرَّف أو تُبتر أو تغيب، وكل ذلك وجه من وجوه المعضلة، ولتذليل هذه الصعوبة نحتاج إلى جهد كبير يُختصر في منهج الدراسة المصطلحية في الدراسة الوصفية بكل شروطها ومستلزماتها، ثم في الدراسة التاريخية بكل شروطها ومستلزماتها، ثم من بعد ذلك تأتي الدراسة الموازِنة أو المقارِنة.
وثالثة المعضلات: قراءة النص، وذلك بأنَّ النص النقدي وغير النقدي تعرَّض لقراءات اختُصرت في قراءتين اثنتين، كل قراءة تحتها أنواع وأصناف: قراءة تمت بالعين الزرقاء، وقراءة تمت بالعين الحمراء، وقراءة تمت بعين غرب الغرب: عين أوروبا الغربية، وقراءة تمت بعين شرق الغرب: عين أوروبا الشرقية، وكل ذلك لفَّ خِرَقاً كثيرة، وحرَّف وصحَّف المضامين والأشكال، مما يستلزم قراءة ثالثة ناسخة للقراءتين معاً ومصحِّحة لهما، تنطلق من الذات، وتنظر بعين الذات، ولن يستطيع القيام بها مستشرق أو مستغرب، إذ لا بد أن تنطلق من أبناء الصلب الثقافي الذي يمثل الامتداد الطبيعي الذي لم يعرف قطيعة حضارية ولا انبتاتاً».
هذه هي المعضلات الثلاث التي رأى الشاهد أن نقدنا العربي يشكو منها، وأظنه غفل عن معضلة رابعة طالما أكدتُ عليها في مقالات سابقة، وهي إشكالية المنهج، ولربما كان يقصدها ضمناً في حديثه عن المعضلة الثالثة؛ إذ ذكرتُ أن للمناهج أهمية كبرى في حركة الفكر بصورة عامة، وفي حركة الخطاب النقدي الأدبي العربي المعاصر بصفة خاصة. ومعلومٌ أنَّ المنهج لا ينحصر في مفهومٍ واحد، أو أدوات مُتعدِّدة، أو بعض القيم والمعايير، بل هو في الحقيقة مَجموعة من المفاهيم، والتصوُّرات المتسقة، والأدوات والخطوات الإجرائية، والقيم والمعايير، وهو بِهذا المعنى رؤية لا مَجموعة من الآراء، فالمنهج رؤية فلسفية متكاملة، أي رؤية للأدب والنقد والإنسان والعالم.
وقلتُ حينها إنَّ الأسباب التي أدَّت إلى وجود هذه الإشكالية يُمكن تلمُّسها من خلال عددٍ من القضايا التي تكشف عن حجمها ومدى خطورتِها، من أبرزها: (غياب المنهج)؛ أي ما يُمكن أن نطلق عليه (اللامنهجية) التي أصبحت سِمَة لأغلب الدراسات النقدية التي ضمَّها الخطاب النقدي العربي المعاصر، فهي لا تعتمد لَها منهجاً عند الدراسة والتحليل للمنجز الإبداعي. ومن الطريف أنَّ (اللامنهجية) هذه قد أصبحت عند البعض من نقَّادنا هي المنهج الذي راحوا يدافعون عنه تَحت ذرائع شتى، منها أنَّ المنهج - أي منهج - يفرض قيوداً عند التطبيق، غير أنَّ الدافع الأساس لذلك هو افتقار مثل هؤلاء (النقَّاد) لأبسط شروط النقد الأدبي، وهو المنهجية؛ لعدم معرفتهم بالمناهج النقدية القديمة أو الحديثة، فدفعهم كلُّ ذلك إلى ذمِّ المنهج والمنهجية. ولا ريب أنَّ غياب المنهج يؤدِّي حتماً إلى الإنشائية والانطباعية والتأثرية، ومن ثَمَّ يضحى الخطاب النقدي عند ذاك عبارة عن تذوُّقٍ ذاتي للنصِّ الإبداعي، يفتقر للموضوعية، مِمَّا يؤدِّي إلى كونه وبالاً على المنجز الإبداعي نفسه. ويُمكن تطبيق هذا القول على بعض التعليقات الصحفية السريعة التي يطلق عليها البعض (نقداً)!