د. إبراهيم بن محمد الشتوي
هذا النموذج المقدم من «داعش» وأخواتها، للإسلام ودولته، أعطى الذين يتحدثون عن الإسلام، وعن تاريخه، وحضارته «الخالدة» المعين الذي لا ينضب من الحالات والشواهد على وجهة نظرهم حيال الإسلام أولا والشرق ثانيا، وعلى العالم الذي يتخيلونه.
فالمعروف أن الإسلام في كثير من الأدبيات الاستعمارية (الاسشتراقية) يمثل دين الوحشية، والعنف، والتخلف واستعباد المرأة، والمقولة الأخيرة التي اشتهرت في الإعلام، وهي أن «الإسلام انتشر بالسيف»، وأنه إنما بسط نفوذه بين الأمم بالإكراه والقوة، تجد إثباتا قويا لها في هذا النموذج، فهو صورة واضحة معبرة عما يمكن أن يكون عليه الحال في القديم.
كما أن «الشرق» مثل أيضا في تلك الأدبيات، عالما يجتمع فيه السحر، بالإثارة، والجمال، وكثرة النساء، والتهالك على الملذات، وهو ما يمثله هذا النموذج الاجتماعي الحي، بما فيه من جوار، تباع بالأسواق ويدلل عليها في المجالس، ويدرك فيها أحد رجال «داعش» الكثير منها بالإضافة إلى زوجاته الأخريات، وقد أشارت الكاتبة «ميرال الطحاوي» في إحدى المقابلات معها، أن رواية «الخباء» التي تتناول فيها جانبا من طفولتها وتصور حياة القبيلة حيث تقبع النساء خلف الخباء، قد وجدت انتشارا لدى المثقف الغربي لأنها تشبع فضوله عن عالم الشرق القديم، الممتلئ بالحريم، والجواري، والغموض، والبعد عن المنطق، وذكرت أنهم كانوا يطالبونها بالكشف عن هذا العالم بصورة أكثر، ويحثونها عليه كما فعلت فاطمة مرنيسي.
وحين أقلب في وسائل الإعلام العربية أو الغربية، ثم أنظر في المقاطع المبثوثة عن «داعش»، أو في الأخبار المنقولة عنها، لا أجد فيها إلا المقاطع التي تغذي تلك الصورة، وتؤكد حضورها؛ رجال تقطع رؤوسهم بالسكاكين لأنهم حلقوا لحاهم، أو لأنهم عملوا وقت الصلاة، أو لأنهم ليسوا مسلمين، مختلفو الدين، أو صور نساء قد غطين بالسواد، وربطن بسلاسل يسقن إلى سوق النخاسة، وقد حددت أثمانهن من قبل بناء على السن، واللون، والبكارة، و-ربما- العرق، والإقليم.
وهي وإن كانت أخبار - أحيانا - تتظاهر بنقل الحقيقة، وتقديمها للمهتمين بما يدور في العالم، فإنها أيضا تتضمن السخرية، والتندر، والرغبة في الوقوف على الغرابة التي تتمثل في «دولة الخلافة الإسلامية» أو «داعش»، المتضمن الإدانة الكاملة لهذا الكائن المشوه، هذه السخرية والإدانة تشمل كل من يؤيد هذه الدولة أو من يدعو إلى إقامة دولة أخرى مماثلة.
وفي ما تعلنه هذه الدولة من ارتباط وثيق بالإسلام، وتظهره في خطاباتها من نصوص قديمة (أراء علماء غريبة، وفتاوى -ربما- شاذة)، وتحشده من حجج تستند عليه في إقامة نموذجها التاريخي، فإن هذه السخرية، والتندر، والإدانة تتجاوز النموذج القائم إلى الأصل الذي تستند عليه، وتدعي أنها تحاكيه، وتمثله. وهذا يعني أن كل النقد الذي يصدر لهذا النموذج القائم يرتد على الأصل، فهو نقد ومحاكمة للفكر التراثي العربي الإسلامي بوجه وعام، ولتلك الأدوات المعرفية التي أسسته، ولا تزال قائمة في تكوين خطابه.
ولسان الحال، للذين يطالبون بدولة إسلامية على غرار النموذج القديم، ويستدعون المقولات من بطون الكتب التراثية لتعزيز أقوالهم، ومواقفهم، يقول: هذه الدولة الإسلامية التي تريدونها، وهي النموذج الأصلي المبني في القديم، الذي ترونه نموذجا متطورا يفوق الدول الحديثة.
وحين تقوم المعركة بين هذه الدولة والدول الأخرى، فإن هذا يجعل هذه الحرب ليست بين دين ودين، ولا بين حضارة وحضارة، ولا بين قوم وقوم، وإنما بين مرحلة تاريخية قديمة بأدواتها ومفاهيمها، وعصر جديد له مفاهيمه، وقوانينه، ومواضعاته، بين التخلف والجهل من جهة، والتمدن، والحضارة من جهة أخرى. وهنا لا نستغرب إذا وجدنا العالم المتقدم يتنادى للدفاع عن حضارته، ومكتسباته، باعتبار تلك الدولة خطرا يهدد الإنسانية، بما أنها لا تؤمن بما توصل إليه من قيم تحكمه، ولا ما بلغه من تطور معرفي ومدني غير وجه الحياة، وطبيعة القواعد التي تحكم العلاقة بين الناس.
وقد يكون في إصرار «داعش» على استخدام السكاكين، بما هي وسائل للقتل بدائية، واستعمال الحرق أيضا في مواجهة الطائرات، والقنابل، والأسلحة المتطورة، صورة رمزية لهذه الحرب الدائرة بين الزمن القديم والعصر الحديث، بين التخلف والبدائية والجهل من جهة والتطور المدني والتقني من جهة أخرى. المشكلة أن الكفة على جميع المستويات، سواء القيمي، أو الدعائي، أو الصناعي والعسكري، تميل للعصر الحديث ومن يمثله ضد العصر القديم ومن يمثله، وهنا تكمن القضية عن سبب المواجهة من البدء، وربما يكون الجواب أن هذه النتيجة الكلية هي المقصود من المواجهة.