صدقني لا أعرف كيف اهتديتُ إليك عندما قرأتك أول مرّة، ولكنّها كانت مصادفةً جميلة كأنها الشّعر عندما رأيت ديوانك المختلف “مجرد تعب” في رفوف المكتبة، في مساء صيفيّ طويل كان هو الآخر متعبا.
سأخبرك بأمري، علاقتي معك ومع الشّعر قديمةُ وملتبسة، فأنا مذ عرفتُ نفسي مقيمُ على الشتات وعواصف القلق وسكاكين الهواجس ولا أسكنُ إلى شيء كما أسكن للقراءة. ولأنني مصاب بالتحديق الدائم، لاحظتُ أن الناس، يا صديقي الحميم بسّام، تأخذ من الشعر العزاء أحيانا، وفي أحايين كثيرة البهجة والسلون والمتعة المحضة، وقد عجبتُ لهذا، لأني لا أستمدّ منه سوى مطارق أكسّر بها قشرة الحزن اليوميّ وأخاتل به فداحة أوجاعنا وأصغي معه، وهذا الأهم، على نحو مباشر لصوت الكينونة العميق، كما يقول هايدغر. لذلك، يا بسّام، تتفتّقُ القصيدة في صدري لا كجُرح وحسب، بل كبابٍ صغيرٍ مدهش وسريّ ألجُ معه للمعنى الجوهري الأخير حول كل شيء. وفي صدورهم، أعني من رأيت من البشر، تنبتُ القصيدة كباقة وردة ناعمة، أراها مسكوكة من الشجن الخفيّ و الدم وأشلاء وأحلام الشاعر، ويرونها محاطة باللحن المموسق وضحكات المقاهي الباردة، ورأيتهم يلتقطون من احتكاك المفردات متعة الصور الوليدة ولا يصلني غير جمر الشرر المتطاير، وآخذ من المُثل والمعاني العالية الأمل المضيء باللهاث خلفها، وفي أحيان ليست قليلة، الأسى المكتوم لمعرفتي بمشقّة الطريق نحوها. هكذا أقرأ الشّعر، ألم أقل لك أن علاقتي به ملتبسة؟ وأنني وإياه نقيم على حافة بعيدة مليئة بالأضداد المتقابلة؟
يا بسّام العزيز، مررتُ اليوم بالروابي الخضراء لمدينتك الهادئة في الجنوب اللباني، وكنت قد قرأتُ كلّ ما وقع تحت يديّ من دواوينك، دواوينك التي رفعت من خلالها مستوى حميمية اللغة فجعلت الوجد أبديا والشوق دهريا ونقلتنا من المعيّن المحسوس اليوميّ إلى المنفلت اللا مرئي البعيد، قادني هذا إلى تنكّب الطرق السهلة المضيئة لأنك لا تعرفها، فمشيت في درب العتمة فرأيتك هناك في الزوايا المظلمة، تغرز الوِحدة أنيابها في ظهرك، ويمنعك الكبرياء أن تصيح لأحد، فتظلّ تعاركها بالكتابة والنحيب الخافت. أراك الآن بوضوح كامل مقيما في ظلال اللغة تغطي وجهك بالمجاز والاستعارة والكنايات عن رؤية بشاعة العالم .. فما تراك فاعل الآن لو عدتَ لتبصر ما حلّ في الشّعر والإنسان والقيم؟ ولكن دعك من هذا الآن لئلا يتجذّر شعورك بالسأم والضجر، وقلّي، وأنت هناك في دروب الماوراء قرب ينابيع الوقت و الفرح، ألا تعود وتقصّ علينا نبأ الموت؟ وتخبرني ما لون الدروب هناك وهل كانت تميل إلى الزرقة كما كان يتخيلها نوفاليس؟ و هل استلمت رسالة الغفران من أيدي المعرّي كما أوصانا أحمد؟ وهل قرأت شعرك في الأماسي الدافئة كما كنت تحلم دائمًا؟ أم تكتفي من كل هذا وتشير لشعرك قائلًا له “سوف تحيا من بعدي” وتترك أغراضك وتنصرف؟
أردتُ، يا بسّام، أنّ أقول لك كم نحن متشابهين، فأنت مثلي عندما «أحببت وما عرفت طريق النجاة” وأنا مثلك مملوءا بنداءات خفيّة وإذا هممت بالنهوض والركض و»ناديتُ فلا صوت يطلع لأن بكاءً يابسًا في الحلق» وأنا خائف الآن يا بسّام، خائف « وما أدركت سببًا لخوفي سوى أنّني أحببتُ» وما زلت خائفًا لأني لا أعرف ما إذا كانت « الوجوه التي نحبّها .. هل تعود؟» أوّاه من كلّ هذا الشوك النابت في أغصان القلب، من هذا التهشّم في مرايا الروح، ومن معنى ألاحقهُ ولا أقبض عليه .. يجرفني ولا أراه
ربما أنك ترجفُ الآن من شدّة الهلع، وحيدًا، وربما أيضا أنّك تنعم بسكينة أبديّة .. من يدري، ولكن أعلم أنني عشتُ متأرجحًا بينهما. سأخرج الآن من مدينك الوادعة صور، وأقول لكَ ما قلته أنت لأختك دلال عندما ماتت ..
«أعدك أن أنسى/أنساك
ولكن عدني أنت بأنّك في الحجرة الضيقة
هناك
وحدك
لن تخاف»
** **
- د. معتصم الهقاص