قد تكون هذه العبارة الدارجة حديثة في لفظها، لكن مضمونها ضارب في أعماق التاريخ السياسي قطعًا؛ فالمتزلفون كائنات خالدة، وعلة وجودهم محصورة في تبرير أي طامة يرتكبها المسؤول. والحقيقة أن الأسود لا يكون أبيض، أو أحمر، أو أخضر، إلا بفضل هؤلاء الأبواق المتمرسين في صناعة الوهم، وتسويق الجريرة، واستمراء الكذب والخديعة. والإعلام المضلل- متى ما أتيح له وسائل المهنية والاحتراف- بليغ التأثير في الخاصة قبل العامة، وهو صور ووجوه، أكثرها نجاعة وأكبرها شناعة ما تلبس بالدين، أو تمسح بالحمية العرقية والقبلية، وأفتكها ما استعان بسحر الشعر؛ لعظم موقعه في القلوب، وسهولة تلقيه وحفظه وانتشاره.
إن التفوق الثقافي والشهرة الطاغية لبلاط المعتمد بن عباد مثلاً، لا يعزى فقط لتفوقه المادي من حيث العناصر البشرية المميزة، أو القدرة العسكرية التي أحاط بها مملكته. لقد قيل في حقه إنه لم يجتمع لملك من الشعراء ما اجتمع له في بلاطه، وليست الثمرة في ضمان المؤانسة الليلية ومجالس الشرب والغناء؛ بل الاحتماء بمنصة إعلامية ثقيلة، تمنح الحاكم وثيقة شرعية وعرفية وتمنع عنه دسائس الليل والنهار، وتكفل له اقتلاع الجذور الخبيثة من محيطه وجواره. إن عناية المعتمد بشعراء بلاطه وتخيره لهم واصطفاءه لبعضهم، كان عن ثاقب نظر وروية؛ والدليل أنهم بقوا له أوفياء حتى بعد انكساره وانحسار ملكه.
إن ما نقرأه اليوم عن عظمة بلاط المعتمد وفخامة سلطانه وشجاعته الشخصية، يربو كثيرًا على ما قيدته أنامل المؤرخين عن عظماء حكام قرطبة أيام الحقبة الذهبية للأندلس، بل ربما محق ذكره شهرة خلفاء مسلمين كبار سبقوه أو أتوا بعده. وليس هذا بطبيعة الحال أكثر من فرية إعلام متفوق، عرف مكامن التأثير ومواضع الترويض، في زمن لم يكن فيه الأندلسيون إلا بواكير ظواهر صوتية في طريقها للتجذر والاستواء. أما المصادر القشتالية فلم تكن تعد المعتمد بن عباد شيئًا إذا ما قيس بالمنصور بن أبي عامر أو عبد الرحمن الناصر مثلاً، كيف وهو يؤدي لهم الجزية السنوية عن يد صاغرًا ذليلاً؟
والواقع أنه كان مضطرًا لدفع الجزية للمسيحي المتغلب، ليتفرغ لقتال أبناء جنسه من المسلمين طمعًا في التمدد ورغبة في السيطرة؛ وذلك أمر لا يقلق القشتاليين بقدر ما يقدم لهم فرائس جاهزة، ويضمن تضخم مواردهم ورفاهية شعبهم. ومع أن الحال بالغ الخطورة -لوقوعه تحت مرأى ومسمع الشعب المسلم المغلوب- لم يكن لدى السياسي مخاوف كبرى تقض مضجعه أو تنغص لذته؛ ففي كل زاوية له كلب ينبح أو ببغاء يضبح، يخطفون العقول ويزيغون الأبصار، لهم فعل الخمرة في الدماغ وأثر الماء في الحريق، وحتى لو تعاظم الجرم لا تخلو جعبتهم من سريع المسكنات إلى أن يأتوا بفاجعة أخرى.
ومن هؤلاء شاعر المعتمد الشهير ابن اللبانة الداني، وهو يقوم بــ «ترقيع» ورطة الجزية التي كان المعتمد يدفعها للنصارى، حتى إذا ضج الناس من الإتاوات والمكوس ومن جرأة الحاكم على معيشتهم؛ انبرى يدافع عن الفضيحة بأخرى أشد منها، فانتصبتا وصمتي عار في جبين الحاكم والمداهن وكلاهما خائن للأمانة:
في نصرة الدين لا أعدمت نصرته
تلقى النصارى بما تلقى فتنخدع
تنيلهم نعمًا في طيها نقم
سيستضر بها من كان ينتفع
وقلما تسلم الأجسام من عرضٍ
إذا توالى عليها الري والشبع
لا يخبط الناس عشوا عند مشكلةٍ
فأنت أدرى بما تأتي وما تدع
وليس هناك مزيد حاجة للشرح؛ فالأبيات لا تترك مجالاً للتعاطف أو التبرير، وتأمل فقط قوله: «فأنت أدرى بما تأتي وما تدع».
** **
- د. صالح عيظة الزهراني