أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أسلفتُ في السبتيَّةِ السابقةِ أنني سمعتُ منذ ثلاثة عشر عاماً أو أكثر (في رحلاتي التي أقضي فيها ما لا يقلُّ عن شهرين بمكة المكرمة والمدينة المنوَّرةِ بين لداتي وطُلَّابي): أنَّ الشَّادِيَةَ أقامت بين المسجدين المكرَّمين منذ إنابتها إلى ذلك اليوم الذي كنا نتحدَّثُ فيه، وكنتُ بانتظارِ رزقٍ من الله سأقبضه خلال أيامٍّ قريبة، وكنتُ أنوي زيارتَها إنْ كانت في مكة المكرمة أو المدينة المنورة؛ لأشتري لها طاقة قماش خام رجالية فاخرة، وطاقةَ قماش خامٍ نساء فاخرة قبل وفاة معالي الدكتور محمد عبده يماني رحمه الله تعالى الذي قيل لي: إنَّه تكفَّل بتأمين طلباتِها، وكانت بزعمهم تجرَّدتْ من كلِّ ما تملكه في مصر من دراهم وعقارات، وفرَّقَتْها على الفقراء، ولم تأخذ معها سوى قيمة تذكرة الطائرة إلى مكة المكرَّمَة، وإلى المدينة المنورة، وما تحتاجه من قيمة المواصلات وما يلزمها من قيمة أكلٍ أو شراب، وأنَّ الله لَمَّا قيَّضَ لها الدكتور محمد عبده يماني طلبت منه أنْ تكون معونتُه لها بشراء ماكينة خياطة؛ لتخيط ملابس رجالية ونسوية، وأنها ستُسدِّد ما دفعه لها الدكتور اليماني بالتدريج مِن قيمة مبيعاتِها؛ ثم بعد ذلك نكتفي بما يحصلُ لها من دَخْلٍ، وأنَّ أهل الخير تقاطروا على شراء ما أنجزته بأسعارٍ مضاعَفَة.. وكنتُ أيضاً أنوي أنْ أبارك لها إنابتَها، وأنْ أشتري لها زيادة ماكينةِ خياطة ؛ لتكون رِفداً للماكينة التي عندها لو تعطلتْ، أو تكون مدداً لو تعرَّفتْ على مَن يريد مساعدتَها.. ولا أعلم مَن رويت عنه هذه الأسطورة؛ بل نسيتُ ذلك ؛ لأنَّ اهتماميَ منصبٌّ على الحدَثِ لا على المتحدَّثِ.. وهذا الخبر روايةٌ أدبية متألِّقَةُ الحبك ؛ وما هي إلا حديثُ خُرافَة.
قال أبو عبدالرحمن: ولا خلاف في أنَّ الشاديةَ: أنابتْ إلى ربها، واعتزلتْ الغِناء، وعكفت على العبادة، وابتعدت عن الأضواء، وأعلنت ذلك خلال عام 1986 ميلادياً/ 1406هجرياً؛ وقد وَهَمَ مَن قال عام 1984/ 1404هجرياً ؛ ومولدها بلا اختلاف في 8 فبراير (شباط) عام 1931ميلادياً (الموافق 21 رمضان 1349هجري) ؛ فعمرها إذن حين إضمارها اعتزال الغناء لأسباب دنيوية خمسة وخمسون عاماً، ولم تعلن اعتزالها من أجل الله إلا بعد لقائها الشيخ الشعراوي.. ويؤيِّد ذلك أنني وغيري كنا نشاهد ونسمع أغانيها في بعض أفلامِها الجديدة ما ينيف على عشرة أعوام بعد عام 1406هـ .. وعمرها يومَ وفاتها ستَّةٌ وثمانون عاماً بالتاريخ الميلادي، إذْ لقيت ربها يوم الثلاثاء 10-3-1439هجري (أي 28-11-2017ميلادياً)؛ أيْ في بحر تسعة وثمانين عاماً بالتاريخ الهجري .
قال أبو عبدالرحمن: لولا أنني لقيتُ التعنيف من والدي رحمه الله تعالى، وأهلي، والعقلاءُ من أصدقاء أبي، والتقريعَ الشديد من سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى عندما نشرتُ في مجلة التوباد ما ينيف على ستين صفحة عن حياة نجاة الصغيرة (أرجو الله أنْ يمنحها الإنابة الصادقة عاجلاً غير آجل؛ فمن أحب إنساناً خاف عليه): لحررتُ ترجمةً للشادية تفوق ترجمتي لصاحبة (وسط الطريق) عددَ صفحاتٍ، وروعَةَ تأثير.. ومنذُ أربعين عاماً تقريباً إنْ لم تَخُنِّي الذاكرة (وذلك العهد هو عهد انْمياعي مع الطرب والجمال رُؤْيةً وسماعاً): رأيتُ الشاديةَ في مقابلة مع أحد الصحفيين بعد استعراضِ مقاطِعَ من أحد أفلامِها: يَصْفَرُّ لونُها، وتُغمض هي عينَيْها خجلاً؛ لأنَّ المشهد عن تَغَنُّجٍ وعُمْرُها يومَها في بحر ثلاثين عاماً؛ ولهذا تفاءلتُ لها بالخير؛ وأنَّ ذلك يَشِي بالحياء من الله ثم مِن خَلْقِه؛ وأمَّا قرارُها الصارم بعزمِها على ترك الغناء، والتَفَرُّغِ لعبادة ربها: فقد بَدأَ بمرورها ماشيةَ بالشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى؛ فلما رآها الشيخ رَمَى إليها كليمةً واحدةً هي: (الله يهديك يا بنتي)؛ فكان لذلك أكبرُ الأثر في نفسِها، وظلَّتْ تتردَّدُ على الشيخ؛ لتسترشد به.. وعلى الرغم من أنَّ الشيخ كان مُتَصَوُّفاً على الطريقةِ الشاذلية (؛ وهكذا كانتْ الشادية؛ ولهذا أوصتْ بدفنها في مسجد السيدة نفيسة)؛ وموقفي من التصوف عموماً ليس حميماً: إلا أنَّ سعيه في هداية الشادية، وله مساعٍ أخرى مع عُلَبِ الليلِ اللواتي هدى الله عدداً منهن على يده: مما أرجو به من الله أنْ يضاعِف حسناته، وأنْ يعفو عن كثيرٍ من أعباءِ التصوف، ولا سيما أنَّ تفسيره الشفهي (وقد ألقَى منه في الإذاعاتِ السعودية كثيراً من الحلقات): كان عظيم النفع، شديد التأثير، نيِّرَ البرهان.
قال أبو عبدالرحمن: قبل اعتزالها الغناء بعامين أو ما ينيف على ذلك، وقبل توبتها الصادقة: علَّلَتْ ما عندها مِن نية للاعتزال بأسباب دنيوية؛ ثم تلا ذلك بحمد الله التوبةُ الصادقة؛ فقالت عن تلك الأسباب الدنيوية: ((إنَّني في عِزِّ مجدي أُفكِّر في الاعتزال.. لا أريد أنْ أنتظر حتى تهجرني الأضواء بعد أنْ تنحسر عني رويداً رويداً.. لا أحب أنْ أقوم بدور الأمهات العجائز في الأفلام في المستقبل بعد أنْ تعوَّد الناس أنْ يروني في دور البطلة الشابة، لا أحب أنْ يرى الناس التجاعيد في وجهي ويقارنون بين صورة الشابة التي عرفوها والعجوز التي سوف يشاهدونها، أريد أنْ يظل الناس محتفظين بأجمل صورة لي عندهم؛ ولهذا فلن أنتظر حتى تعتزلني الأضواء؛ وإنما سوف أهجرها في الوقت المناسب قبل أنْ تهتزَّ صورتي في خيال الناس)).. ورأى بعض أحبابي كما صُوِّرَ لي من الأنترنيت: أنَّ عُمْرها غداةَ توبتها خمسةٌ وخمسون عاماً ما دُمْتُ ذكرتُ أنَّ إنابتها كانت عام 1986 ميلادياً؛ وقد أسلفتُ آنفاً الوجه في ذلك.. وقد كرَّست الشادية حياتها بعد الاعتزال لرعاية الأطفال الأيتام خاصة لاسيما وأنها لم ترزق بأطفال وكانت تتوقُ أنْ تكون أمّْاً؛ فإلى لقاء إنْ شاء الله تعالى السبتَ القادمَ عن الملك عبدالعزيز رحمه الله، والله المستعان.