الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
للدين الإسلامي الحنيف السبق في إرساء مجموعة من المفاهيم التي تُعد النواة الأولى لمفهوم المسؤولية الاجتماعية؛ فقد جاء الإسلام ليؤكد أهمية التعاضد والتساند بين أعضاء المجتمع من أجل تحقيق المصالح الكلية لجميع أفراد المجتمع.
ويتضح مفهوم المسؤولية الاجتماعية بجلاء من خلال العديد من المبادئ الإسلامية التي تظهر في العديد من النظم الاجتماعية، ومن أبرزها النظام الاقتصادي الإسلامي. ومن هنا كان السؤال المطروح على عدد من ذوي الاختصاص والمهتمين في كيفية تقديم برامج المسؤولية الاجتماعية المساندة لأفراد المجتمع، ودعمهم، وسد احتياجاتهم المختلفة..
دراسة علمية
بداية، يبيِّن د. خالد بن سليم الحربي، أستاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة حائل، أن لدينا في المملكة العربية السعودية برنامجَيْن للمسؤولية الاجتماعية، الأول: برنامج المسؤولية الاجتماعية المرتبطة بالشريعة الإسلامية والنظام الاقتصادي الإسلامي وما تتضمنه من مبادئ (أو ما يمكن أن نطلق عليه المسؤولية الاجتماعية من منظور إسلامي).
والثاني: المسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR) وما تضمنه من أهداف.
هذان البرنامجان الكبيران -بلا شك- لهما أدوار ووظائف مهمة في المجتمع، ويقدمان مجموعة من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية التي تنعكس على أفراد المجتمع.
لكن ما هو حجم ونوع الخدمات التي يقدمانها؟ وما هي الفئات المستهدفة من هذين البرنامجَين؟ وهل هناك تكامل بين هذين البرنامجَين؟ وما المعوقات التي تعترض طريقهما؟ وما الطرق المثلى لتدعم أمثال تلك البرامج بما ينعكس على أفراد المجتمع؟ وهل هناك جهة رسمية تشرف على برامج المسؤولية الاجتماعية، وتوجهها، وترسم لها السياسيات الاجتماعية والاقتصادية، ثم تقيّم برامجها، وتسهم في تطويرها؟ ما ذكرته أعلاه يحتاج إلى دراسة علمية رصينة على مستوى الوطن، ترصد لنا واقع المسؤولية الاجتماعية، وتهدف لتشخيص واقع هذه البرامج من حيث مواردها وبرامجها ومنجزاتها والمعوقات التي تقف في طريقها.
وفي رأيي الشخصي إنه من المهم جدًّا أن توحَّد الجهود كافة المرتبطة ببرامج المسؤولية الاجتماعية في إطار مؤسسي رسمي موحد ومتكامل (بحيث تكون لها ميزانية متكاملة واستراتيجيات وخطط عمل متكاملة)، وتقدم خدماتها لشرائح المجتمع كافة في جميع مدن وقرى هذا الوطن الغالي.
آفاق رحبة
ويشير الدكتور عبدالرحيم محمد المغذوي، أستاذ الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة، إلى أنه يمكن الانطلاق بالمسؤولية الاجتماعية نحو آفاق جديدة رحبة؛ لتستوعب المتطلبات الأساسية والمتغيرات المتنامية في المجتمعات العالمية. ويمكن أن ننطلق بمفهوم المسؤولية الاجتماعية من مفهومها وإطارها التقليدي إلى مفاهيم استشرافية مستقبلية جديدة، وهو ما يمكن تسميته بـ(المسؤولية الاجتماعية الذكية).
ومن خلال هذا الطرح الجديد الذكي للمسؤولية الاجتماعية يمكن تصور عملها في البناء والتنمية والوقاية والعلاج.
كذلك العوامل التي تساعد نظم المسؤولية الاجتماعية بتأدية أعمالها وممارسة وظائفها المتنوعة المحلية والإقليمية والدولية من خلال وسائل وأساليب عديدة.. ولعل للتقنيات الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي دورًا محوريًّا في ذلك.
ولا يقتصر جهود المسؤولية الاجتماعية على الجوانب المادية والعينية، بل يتعدى ذلك إلى الجوانب العلمية والفكرية والثقافية والتدريبية والتوعوية واللوجستية المتنوعة التي يحتاج إليها المجتمع.
ضرورة التفعيل
ويقول الأستاذ عبدالله بن محمد الدويش الرئيس التنفيذي لمجموعة العربية للعود إن الكلام يكثر حول ما يسمى «المسؤولية الاجتماعية» وضرورة تفعيلها في المجتمع، ويرى البعض أن «المسؤولية الاجتماعية» مقتصرة على القطاع الخاص فقط، وأن ذلك من الواجبات والمسؤوليات التي ينبغي أن تضطلع بها الشركات والمؤسسات الوطنية بتنوع أعمالها ونشاطاتها التجارية كافة كرد دَين للوطن الذي قدّم الكثير لتلك المؤسسات والشركات. وحقيقة الأمر إن هذا المفهوم خاطئ جدًّا؛ فالقيام بالمسؤولية الاجتماعية في المجتمع السعودي أرى أنه يختلف كثيرًا عن المجتمعات في البلدان غير الإسلامية؛ فنحن بوصفنا مجتمعًا أفرادًا وجماعات مسلمون بالفطرة، وديننا يحثنا على الترابط والتعاون مع بعضنا، وهو موجود على مستوى الأفراد والجماعات، ولكنه يتفاوت من إنسان لآخر، ومن جهة لأخرى. وهذه الأعمال الاجتماعية والإنسانية يعتقد البعض أنها مقتصرة على القطاع الخاص فقط دون غيره.
تنوع الإسهامات
ويؤكد الدويش أن المسؤولية الاجتماعية أمر واجب وحتمي من الناحية الشرعية والاجتماعية والإنسانية، وهي تحتاج إلى شيء من التنظيم في المجتمع، ويجب أن تغيَّر النظرة القاصرة لدى البعض بأن المسؤولية الاجتماعية لا بد أن تكون مادية فقط، ولكن الإسهامات وتنوعها في القطاع الخاص يمكن أن تكون بحسب مناشط الجهة، ودعمها وإسهاماتها من خلال منتجاتها. وأرى في هذه المناسبة أهمية نشر ثقافة التطوع في المجتمع، وتوكيدها لدى الأفراد والجماعات على مستوى الأسرة والمدرسة وفي وسائل الإعلام، وما يقدمه المواطن بل المقيم في هذا البلد المعطاء هو جزء من الواجب الشرعي والاجتماعي، وفي الوقت نفسه تأكيد للانتماء الوطني ورد الدَّين له، وتحقيق أُطر التواصل والتكافل الاجتماعي بين أبنائه. كما أن الشركات والمؤسسات مطالبة بالقيام بدورها في خدمة المجتمع من خلال ما يُسمى المسؤولية الاجتماعية؛ وذلك لحاجة المجتمعات الإنسانية الملحة بها، ودورها المؤثر في عملية التنمية المستدامة، ولتعزيز روح الانتماء للوطن، وتحقيق التعاون والتعاضد والتآلف بين أفراد المجتمع. وبالنظر لمفهوم المسؤولية الاجتماعية من واقع الممارسات الحالية للشركات والمؤسسات والأفراد نجدها مترسخة في الأذهان والعقول على أنها شكل من أشكال العمل الخيري بدلاً من أن تكون على شكل برامج مستدامة مرغوبة على أرض الواقع.
التنمية المستدامة
ويضيف الأستاذ الدويش قائلاً: لا يختلف اثنان على الدور الكبير للشركات والمؤسسات في المسؤولية الاجتماعية على الرغم من اختلافها وتنوعها في بلدان العالم.. ففي الغرب أصدرت تشريعات تحفز القطاع الخاص على القيام بأعمال ونشاطات خارج نطاق السوق، وقامت بعض الأجهزة الحكومية بدفع مؤسسات القطاع الخاص للقيام بواجبات مسؤوليتها الاجتماعية، وتبني سياسات عامة لتنظيم المسؤولية الاجتماعية للشركات، وتطوير الاستثمار الاجتماعي لدى الشركات، وتشجيعها لتبني عمليات تشغيلية ذات مسؤولية.
ولأهمية المسؤولية الاجتماعية عرَّفها البنك الدولي بأنها «التزام أصحاب النشاطات الاقتصادية المساهمة في التنمية المستدامة من خلال العمل مع المجتمع المحلي لتحسين مستوى المعيشة بأسلوب يخدم الاقتصاد والتنمية».
ومن هنا يبقى الهدف الأسمى للمسؤولية الاجتماعية لدى الشركات من خلال الوعي بضرورة الالتزام بتنمية وتطوير النشاط الاقتصادي لمنظمات الأعمال، من خلال الربط بواجب هذه المنظمات لتنمية الجوانب الاجتماعية كأداة لتحقيق تنافسيتها واستمرارها.مشيرًا إلى أن المسؤوليات الاجتماعية لدى الشركات والمؤسسات في المجتمع السعودي تتمثل في الدعم المادي والمعنوي، ورعاية المؤتمرات والندوات والمهرجانات، والمبادرات الخيرية والإنسانية، بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المحلي ذات العلاقة.
مفاهيم واسعة
ويقول الأستاذ محمد بن صالح الحمادي، المدير التنفيذي لمجموعة مستشفيات الحمادي بالرياض: لا أبالغ إذا قلت إن المقياس العام لرضا المجتمع عن المسؤولية الاجتماعية في المؤسسات التجارية الكبيرة في بلادنا قليل جدًّا ومتدنٍّ.. وأتفق مع النظرة العامة لذلك؛ فقلَّ أن نرى لها أثرًا ملموسًا إلا من مؤسسات محدودة جدًّا، ولا ترتقي إلى مستواها المالي ومداخيلها الأساسية من السوق المحلي.
إن المسلَّمات الحديثة في منظومات المجتمع المدني في العصر الحديث هي أن المؤسسات التجارية تعد الداعم الكبير والممول الرئيس للقطاع غير الربحي والمنظمات والمؤسسات الخيرية.
وفي مجتمعنا السعودي ذي البيئة الإسلامية فإن لنا في التشريع الإسلامي الحكيم مفاهيم واسعة للمسؤولية الاجتماعية، سواء في مصارف الزكاة المحددة أو أبواب الصدقات الواسعة غير المحددة.. ولو قامت المؤسسات بدورها تجاه دعم احتياجات الأفراد وبقية المكونات الاجتماعية أيًّا كانت فسيتم المساهمة في تغطية كثير من الاحتياجات المالية في المؤسسات الاجتماعية، والإسهام في تنمية إيراداتها ومضاعفة إنتاجها لخدمة المجتمع، وتعزيز مفهوم المسؤولية الاجتماعية والتكامل والتكافل في المجتمع.. كما أتمنى أن تبادر الوزارات ذات العلاقة بتعزيز هذا الدور تشجيعًا وتقديرًا.. وتقديم حوافز لهذه المؤسسات.
مسؤولية الجميع
ويقول الدكتور عثمان بن عبدالله آل عثمان، مشرف الجودة الشاملة في تعليم محافظة الأفلاج: لقد حثنا ديننا الحنيف الصالح لكل زمان ومكان على تقديم ومد يد العون والمساعدة لكل ذي حاجة ملحة، وجعل ذلك من المحفزات لبلوغ أعلى درجات ومراتب الجنة.. ولنا في النهج النبوي القويم أسوة حسنة لا تضاهَى ولا تجارَى أبد الدهر.
ومن وجهة نظر شخصية قاصرة قابلة للصواب والخطأ فالأمة بأسرها معنية بأمر وشأن المسؤولية الاجتماعية بدءًا وانتهاء.. والأمر في مجمله وتفاصيله الدقيقة ليس حصرًا ولا حكرًا على فئة مقصودة بعينها دون أخرى؛ فالكل في هذا المنحى سواء.
إننا باعتبار الجبلة البشرية المتأصلة والمتجذرة في ذواتنا منذ قديم الأزل نعيش في بوتقة وعاء، وفي وسط بيئة تتفاضل وتتباين وتختلف فيها التوجهات والمقاصد ما بين آنية ضيقة منغلقة، وأخرى أكثر شمولية واتساعًا وانفتاحًا.
إن المجتمع المدني المتقدم والنابض بالنمو المطرد شبيه بذلك المحيط المتسع والزاخر بالدرر والجواهر، الذي عزمت وشرعت فيه عامة مكوناته أن تكون فاعلة مؤثرة متأهبة لتنفيذ المهام الكبرى بعزيمة وتحدٍّ، وهي في خضم معالجة ذلك كله تتسم بعمل مخطط ومنظم، متقن ومقنن، وفق زمن محدد.
وحتى نصل في منظومتنا الإسلامية للقمة الشماء والمجد التليد فلا بد من تعاون بنَّاء مثمر، وجهد مبذول، وسعي حثيث لا يخمد، وتضحيات ضخمة لا تتوقف، تؤدي في نهاية المطاف إلى حياة سعيدة هانئة زاخرة بالمنجزات النوعية والمفيدة في شتى الجهات، وعلى الأصعدة كافة.
إنَّ اغتنام واستثمار أي فرصة مواتية لخدمة ونفع من هم حولنا سيُشعراننا - لا محالة - بالرضا والسعادة وطمأنينة النفس وهدوء البال، وسيدفعاننا مجددًا وطوعًا واختيارًا لنكون أكثر اجتهادًا وعطاء وبذلاً؛ لأن الغاية هنا أسمى، والهدف أجلّ وأرقى.