ميسون أبو بكر
اللغة عقيدة وثقافة ونهج حياة، اللغة هوية وانتماء، أصالة وتأشيرة دخول لمستقبل لا ينفصل عن الماضي، بل هي تأكيد لتاريخه ولحضارة اهتم بها الغرب ومن ثم نشط الاستشراق الذي اعتبر حالة إيجابية إضافة للحالات المرضية القليلة التي كأنها الاستشراق.
تعلم الآخرون لغتنا ليس فقط لأنها لغة جميلة مدهشة، وفيها من التراث الشعري والسردي ما يشوق الآخر لخوض أسبارها والاطلاع عليها، بل أيضاً لأنها لغة علم وحوار وتعايش.
أتحفنا قبل أيام في أمسية شعرية بمقر إقامته بالرياض السفير الفرنسي السيد فرانسوا غوييت، الذي قرأ قصيدة كاملة للشاعر محمود درويش وقصائد متفرقة من الشعر الجزائري كنا فيها بين الدهشة والمتعة، حيث إنّ سعادة السفير كان يسعفنا بشرح ما عصي علينا فهمه من أبياتها وكلماتها.
اللغة التي هي إرثنا الثقيل الذي أضاعه الكثيرون منا والتي هي من بين خمس لغات حاضرة في الأمم المتحدة، فإنها للأسف ليست اللغة التي أجدنا الحفاظ عليها وسط ما أغرانا من لغات طغت على حياتنا العملية والأُسرية، متجاهلين عن غير قصد لغتنا الأم، بل حتى على وسائل التواصل الاجتماعي نحن نملك أقل محتوى لغوي، رغم أننا الأكثر استخداماً لهذا الفضاء الإلكتروني لأننا اتجهنا لاستخدام ما يسمّى (بالعربيزي)، وهو الكتابة بالأحرف الإنجليزية للإشارة لمصطلحات عربية.
اللغة التي نحتفي بها بطرق عدة واحتفالات وكرنفالات قد تكون اعتذاراً عن تقصيرنا بحق اللغة، لكنها لا تصلح حالاً ولا تلئم جرحاً ولا تسمن أو تغني عن تقصير، وقد هجرت معظمها إلا قليلها الذي يقوم على أساس أكاديمي ومنهجي صحيح، فمعظم تلك اللقاءات يحضرها من لا يتكلم الفصحى في حياته اليومية ولا يتعداها عن ورقة البحث التي قد لا تخلو من الأخطاء ودخول اللهجات فيها.
اللغة تواجه تحديات كبيرة أكبرها إخفاق أطفالنا في التحدث بها وإجادتها، وبدل أن تكون لغة للتواصل عبر وسائل التواصل تجاهلها شبابنا وأغرتهم الأحرف اللاتينية.
الكثير من هذا الجيل لا يجيد الكتابة بها ولم يكن هناك مجهود كبير من الأسرة والمدرسة لتنمية المهارات الكتابية، حيث من متابعتي لبعض الأطفال في المراحل الأولى، أجِد أنّ تدريس اللغة لا يكون بمتابعة حثيثة ومهارات تحث الطالب على حب اللغة، وحصة النشاط التي تمنينا أن تكون واقعاً كان يمكن أن تستغل في هذا الجانب.
من قبل كانت جهات عدة شاركت في ترسيخ لغتنا في أذهاننا وفِي استخدامنا لها، حصص الإملاء المكثفة وحصص النشاط المدرسي التي تعنى بالمطالعة ومكتبة المدرسة، ثم الأفلام الكرتونية التي تحرص القنوات بثها باللغة العربية، وبرامج ترفيهية تعليمية مشوقة أنتجها مركز التعاون الخليجي كالبرنامج الشهير: افتح يا سمسم.
كان المعلم في المدرسة يبذل جهداً لترسيخ قواعد اللغة وتعليمنا المهارات الكتابية، كان هو النموذج الحي أمامنا الذي يجيد استخدامها داخل وخارج الصف، وكنا نتكلف في تجميل الخط ونحن نكتب أحرفها على بطاقة معايدة أو الطابع الذي يحمل اسمنا على كتبنا، لأننا نعتبر الخط هوية لنا ومرآة لشخصيتنا، واليوم معظمنا يتسابق لمدارس (الإنترناشيونال) والمدارس الأجنبية، وأنا لست ضد الفكرة، لكن أخشى أنّ معظمها يدرس اللغة العربية في حصة يومية لا يتعمق فيها مع الطلبة باللغة.
القابض على اللغة اليوم كالقابض على جمرة، العربية ثم العربية ثم هي أولاً، لنكوّن مجتمعاً لا ينفصل عن تراثه اللغوي وإرثه الأدبي الذي احتفظت به اللغة.