د.عبدالرحيم محمود جاموس
لم تجد كافة النصائح التي قدمها الزعماء العرب ولا زعماء العالم لتثني الرئيس ترامب عن اتخاذ قراره يوم الأربعاء 6 ديسمبر 2017م، لتنفيذ وعوده الانتخابية لإسرائيل باعتبار القدس المحتلة عاصمة للكيان الإسرائيلي والتوقيع على قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، معارضاً ما سبقه من رؤساء أمريكا، بل مستهتراً بهم وأنه قد تميز عنهم، وكأنهم لم يكونوا على علم بحقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي بشكل عام، كما لم يكونوا يعرفون مصالح الولايات المتحدة كما يفهمها اليوم السيد ترامب، كما لم يفهموا أيضاً المزاج الدولي والشرعية الدولية وقراراتها بشأن القدس والأراضي المحتلة الفلسطينية منذ العدوان الحزيراني عام 1967م التي ترفض طمس هوية القدس وهوية الأراضي الفلسطينية، كما ترفض كافة الإجراءات التي أقدم عليها الاحتلال خلال سنوات احتلاله الطويلة بدءاً من قراراته القاضية بضم مدينة القدس الشرقية وصولاً إلى كافة الإجراءات الهادفة إلى تغيير معالمها الجغرافية والثقافية والعقائدية والسكانية بهدف إتمام عملية الضم وخلق العقبات أمام أية تسوية تستهدف التوصل إلى تسوية للصراع على أساس قواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، التي عارضت كافة هذه الإجراءات من جانب سلطات الاحتلال الإسرائيلي وشجبتها وأدانتها ولن تسبغ عليها أية مشروعية معينة.
السيد ترامب باعترافه بتلك الإجراءات المنافية للقانون الدولي يكون فعلاً قد تفرد عن الرؤساء الأمريكان الذين مروا على الإدارة الأمريكية قبله ورفضوا التجاوب مع هذه التغييرات والرغبات الإسرائيلية، ومع ذلك وبعد هذا الموقف المشين في تاريخه الشخصي وفي تاريخ السياسة والدبلوماسية الأمريكية يتباكى على السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويؤكد عزمه على مساعدة الطرفين لإحلال السلام بينهما..!.
إننا نؤكد أن هذا الموقف لن يغير شيئاً من وضع القدس كمدينة فلسطينية محتلة... ولن ينشئ حقاً ولن يلغي حقاً..!
أي سلام هذا الذي يسعى ترامب إلى إقامته بين الطرفين، السلام الذي يحسم مصير القدس من جانبه لصالح العدوان والاحتلال، وهل أبقى هناك مجالاً للسلام بين الطرفين، وهل أبقى لنفسه ولإدارته وللولايات المتحدة من دور في عملية السلام؟!.
إن هذا الإعلان والقرار الترامبي قد أنهى أي دور للولايات المتحدة في رعاية المفاوضات التي تابعتها على مدى ربع قرن بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، لما يمثله هذا الإعلان والقرار ليس فقط انحيازاً وإنما عدواناً صلفاً من جانب الولايات المتحدة أولا على الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة وثانيا على القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ونهاية بالسياسة التقليدية للرؤساء الأمريكان وللدبلوماسية الأمريكية التي كانت ترفض تحديد مصير القدس من طرف واحد، كما كانت تعتبر الإجراءات الإسرائيلية عقبة في طريق السلام.
هذا الإعلان والقرار الترامبي يمثل انقلاباً في الموقف الأمريكي ينقله من موقف الانحياز إلى موقف الشريك في العدوان، وأقله يمثل انسحاباً أمريكياً مباشراً من الجهود الدولية الهادفة إلى إقرار تسوية ولو واقعية بين الطرفين، تستند إلى الشرعية الدولية وقراراتها وخطة خارطة الطريق المعتمدة من أمريكا ومن اللجنة الرباعية الدولية، إضافة إلى مبادرة السلام العربية، هذا الموقف غير العقلاني سوف يؤدي إلى عزلة السياسة الأمريكية، وسوف يدعو الأطراف الدولية الفاعلة إلى نبذ هذه السياسة الأمريكية وتجريدها من صفة الراعي لعملية السلام، لأنه بالفعل أشعل ناراً لم يدرك بعد عواقبها على طرفي الصراع وعلى المنطقة وعلى العالم، وعبر عن جهل وصلف لا مثيل لهما بمعطيات الصراع وبعناصره، وقذف بكل الجهود الدولية والأمريكية السابقة من أجل إحلال الأمن والسلام إلى سلة المهملات، ليس لشيء سوى لأنه لا ينظر لهذا الموقف إلا نظرة شخصية ضيقة لا تتعدى مصلحته الشخصية ولا تخدم أية مصلحة دولية، ولا حتى مصلحة الولايات المتحدة التي سيلحق بها أبلغ الضرر وسيضعها في حالة عزلة دولية لا مثيل لها، ولن ينال سوى رضى نتنياهو وعصابته الحاكمة في الكيان الإسرائيلي، فعلى أرضية الأزمة الداخلية التي تلاحقه منذ أن اعتلى عرش إدارة الولايات المتحدة، والتي قد تعصف به وتحول دون إكمال ولايته على رأس الإدارة الأمريكية، فهو بهذا الفعل السياسي والدبلوماسي الخارجي، يسترضي فيه الكيان الإسرائيلي طمعاً بدعم اللوبيات اليهودية في أمريكا كي توفر له شبكة الأمان والنجاة من هذه الأزمة التي تتفاعل يوماً بعد يوم وتشد الخناق عليه، وهذا الإقدام أخطر قرار تقدم عليه الإدارة الأمريكية بشأن الصراع العربي الإسرائيلي منذ بدايته وإلى الآن، في مقابل مواصلة الضغط على الجانب العربي ليطبع مع الكيان الإسرائيلي كمقدمة لإطلاق عملية التفاوض، والضغط المباشر على الجانب الفلسطيني بدءاً من إغلاق مكتب التمثيل الفلسطيني في واشنطن إلى وقف المساعدات للسلطة الوطنية، وعدم احترام الاتفاقات الثنائية الأمريكية الفلسطينية والإسرائيلية الفلسطينية.
بالفعل هذا الإعلان والقرار العدواني لابد من مواجهته على مستوى كل الصعد، فالشعب الفلسطيني الصامد في وطنه والمتمسك بحقوقه المشروعة في القدس وفي بقية الأراضي المحتلة لن يذعن لهذا العدوان السافر، ولن يفقد الوسيلة لمواجهته على الأرض وعلى المستوى السياسي والدبلوماسي والقضاء الدولي، مدعوماً بالموقف العربي الموحد والرافض لهذا الإعلان والقرار وكذلك الموقف الدولي، والتي لم تتوان أمام فجاجة هذا الإعلان وحيثُ بادر الجميع بالإعلان عن رفضه واعتباره قراراً لا يخدم المفاوضات ولا يخدم التوجه نحو إقرار أية تسوية بين طرفي النزاع.
الفلسطينيون يعرفون ما يتوجب عليهم القيام به في هذه المواجهة الأمريكية الفلسطينية، شعبياً ورسمياً على مستوى الداخل الفلسطيني وعلى مستوى الخارج، وقد جاء خطاب الرئيس الفلسطيني تعقيباً على إعلان ترامب كان رفضه واضحاً ومحدداً ومعبراً عن ملامح خطة العمل الفلسطينية المقبلة أولاً على المستوى الفلسطيني ثم على المستوى العربي والدولي، من أجل حماية الحقوق الوطنية الفلسطينية في القدس العاصمة وفي بقية الأراضي الفلسطينية وصولاً إلى تحقيق قيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967م وعاصمتها القدس وحل مشكلة اللاجئين وفق القرار الأممي 194 لسنة 1948م، وهذا ما يمكن تسميته الخطة (ألف)، كما توجد الخطة (باء) والتي أشار إليها الرئيس الفلسطيني سابقاً في خطابه الأخير في الأمم المتحدة، أمام هذه العقبات التي تُفرَضُ أمام حلِ الدولتين، المتمثلة في فرض نظام الأبارتهايد والفصل العنصري والتطهير العرقي الذي تفرضه سلطات الاحتلال على الشعب الفلسطيني، والمساندة الهوجاء من جانب إدارة الرئيس ترامب لهذه السياسة العدوانية، فإن النضال الفلسطيني ومعه بالتالي الموقف العربي والدولي الرافض لكل أشكال التمييز العنصري، سيتمثل في النضال من أجل إسقاط هذا النظام العنصري وإقرار نظام يقوم على أساس المواطنة والمساواة في الحقوق، وليس على أساس العرق أو الدين أو الجنس، وتمكين الشعب الفلسطيني حينها من ممارسة حقه في العودة إلى وطنه وتقرير المصير إما في دولة ثنائية القومية أو في دولة واحدة موحدة على أساس من المساواة بين الجميع على أساس المواطنة.
والأيام القادمة سوف تكشف عن كثير من المواقف والاحتمالات التي سيتطور إليها الصراع وستؤدي إلى عزلة تامة للكيان الصهيوني وعزلة للموقف الأمريكي المساند له ولإجراءاته العنصرية، لما في هذا الإعلان والقرار من عدوان ومن تهديد للسلم والأمن في المنطقة ونسف لكل الجهود الدولية التي سعت لإقرار تسوية بين الطرفين، وهذا نتيجة منطقية تترتب على هذا التغريد المنفرد والعدواني للرئيس ترامب ولإدارته، التي لم تحسب عواقب هذه النزوات والنزعات الفردية والعدوانية والدونية الصادرة عن عقلية دونية عدوانية قاصرة لا ترى إلا مصالحها الفردية الضيقة والمحكومة لأزماتها الذاتية، والمتجاهلة لأبسط الحقائق الموضوعية والقانونية والتاريخية والسياسية التي تمثل عناصر هذا الصراع، وتتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني.