علي الصراف
لم يدرك البريطانيون الأمر إلا مؤخرا، وفي بعض البلديات حصرا. ولكن الألمان يمارسونها كمألوف اجتماعي منذ عدة عقود. وذلك إلى حدٍ يُقنع المرء، بأنّ جانبا من ثراء هذا البلد يعود إلى أنه لا يبدد شيئا.
وكان من إحدى أولى «الصدمات» الثقافية التي تعرضت لها في ألمانيا، أني عندما اشتريت منزلا في الريف، فوجئت بجارة لي تحمل معها جدولا زمنيا لأنماط النفايات المختلفة التي يتعين عليّ أن أحفظها، وأن أتبع مواعيد تسليمها، وأن أضع كل شيء في مكانه أو في حاويته الخاصة.
فائض الطعام، يذهب إلى مكان. وأكوام الأوراق والصحف والمجلات، تذهب إلى مكان آخر. وعلب البلاستك بمختلف أنواعها تذهب إلى مكان ثالث. والقناني الزجاجية إلى مكان رابع. وهناك موعد لحمل الأثاث القديم أيضا. بعضه يُهرس، إذا كان من الخشب، وبعضه يُعطى، إذا كان صالحا.
السبب هو أن تلك الجارة لاحظت ما أرميه، فرأته مختلطا. وربما قالت: بريطاني مُتخلف! (قبل أن تعرف أني عربي الأصل).
سألتها: لِمَ كل هذا الحرص؟ قالت: «إنك تبدد ثروة. ونحن بحاجة إليها. المسألة ليست مسألة محافظة على البيئة فحسب، ولكنها مسألة مال أيضا. هل تستطيع أن تتخيل ماذا يمكن أن تعنيه ملايين العلب البلاستيكية، أو ملايين القناني الزجاجية، وأطنان من الخشب، كل يوم؟».
- وماذا بشأن الطعام؟ سألتُ. فقالت: نحن نحوّله إلى علف حيواني. وهذا ثروة أخرى.
واستطردت بالقول: يمكنك أن تستغني. هذا من حقك. ولكن لا يجوز أن تُبدد. هذا من حقنا عليك.
الألمان ينظرون إلى الأمر من زاوية اقتصادية. ويستطيع العاقل أن يفهم ماذا تعني أو ما يمكنه أن تجمعه أو تحافظ عليه من مال. كما يمكن للمرء أن يفهم، كيف تمكن هذا البلد الذي خرج من حربين عالميتين ممزقا ومحطما ومفلسا، أن يعيد بناء نفسه بتلك السرعة. كان ثمة إرادة حديدية عامة. كان ثمة إخلاص من فولاذ. ولكن كان هناك حرص أوفى حقا من الذهب.
نحن المسلمين، نميل إلى اعتبارات أخرى، ذات طابع ديني. وهي ربما كانت (أو يجب أن تكون) أعمق من كل الاعتبارات الاقتصادية. فما بالك بهذه وتلك معا؟
ومن هنا تنشأ معضلة أشد. فإذا كانت الاعتبارات الدينية لا تكفي لكي تحفظ نعمة الله عليك، وتكف عن تبديد الثروة، فأين الخطأ؟ أهو جهل اقتصادي؟ أم نكران للنعم؟
ولئن وجدتَ نفسك تحفظ للألمان ثروتهم، عندما تكون بينهم، فلِمَ بالله عليك لا تحفظها لبلدك عندما تكون فيه؟
أفهم تماما، أن الأمر يتعلق ببعض عادات اجتماعية بالية تميل إلى التبديد على سبيل إظهار الثراء والكفاية والكرم. لا بأس، فهذا أمر لو كان يقتصر على الطعام، فإنه نفسه غير محمول. فما بالك إذا أضفت إليه الورق والبلاستك والزجاج والخشب والحديد، وكلها تُشترى بأموال يجدر حفظها؟
التربية الدينية التي نشأنا فيها، كانت تلزمنا أن نرفع قطعة الخبز المرمية في قارعة الطريق لنضعها على حاشية شباك، أو مكان مرتفع، إكراما لـ»نعمة الله».
لم أفهم إلا متأخرا أن تلك العادة كانت توفر في الواقع طعاما (أو رزقا) للطيور.
ولكني كنت بحاجة إلى «درس ألماني» لأفهم أن طعامك الذي تبدده، والزجاج والورق والخشب والحديد الذي ترميه إنما هو ثروة يجدر أن تحفظها إكراما لنعمة الله عليك.