«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
قبل سنوات كنت أعد تحقيقًا ميدانيًّا في سوق القيصرية التاريخي بالأحساء عندما لفت انتباهي في أحد محال العطور أحدهم يعرض قطعة صغيرة من «العنبر»، لا يتجاوز حجمها علبة الكبريت الصغيرة، على صاحب المتجر. وعندما سمعت المبلغ الذي عرضه عليه لشرائها، وكان مبلغًا كبيرًا بالنسبة لحجمها، دُهشت للمبلغ الكبير الذي سوف يُدفع من أجل ذلك. تذكرت هذا المشهد عندما كنت أجلس بجوار أحدهم مؤخرًا في مناسبة اجتماعية فإذا بي أسمع الذي يجلس على يمينه يستفسر منه عن نوع عطره الغريب بالنسبة له. فرد عليه مستغربًا استفساره بأنه عطر أساسه العنبر؛ فقررت أن أكتب «إطلالة» اليوم عن السيد عنبر. هذا العطر أو «الطيب» كما يقول عنه الآباء والأجداد منذ عشرات السنين. وهو مادة تستخرج من أمعاء الحوت، وأحيانًا يقذف به الحوت بصورة تلقائية على الشواطئ، ومحظوظ من يعثر عليه؛ فسوف يتحول إلى أحد الأثرياء منذ لحظة حصوله عليه. وأذكر بالمناسبة أنني قرأت فيما قرأت من أخبار مثيرة ومبهجة، بل كان الخبر موضوعًا مهمًّا وطريفًا للصحافة المحلية أيامها. والخبر باختصار - إن لم تخني الذاكرة - هو عثور صياد بسيط - ولن أقول فقيرًا - من أبناء جزيرة «فرسان»، ويدعى (العقيلي)، على قطعة عنبر، يبلغ وزنها تسعة كيلوجرامات. وحينما حملها وعاد بها إلى قريته تحولت حادثة العثور عليها إلى حكاية الجزيرة بأكملها، بل تجاوز الخبر حدودها؛ لتكتب عنها الصحافة. ولقد باعها الصياد أو البحار العقيلي إلى أحد تجار العنبر بمبلغ كبير جدًّا، جعله يتحول من حال إلى حال، بل إنه استطاع أن يشتري بيتًا لأسرته ومركبًا ومعدات صيد. وما حصل للصياد السعودي «العقيلي» حصل قبل عام للصياد العماني خالد السناني، الذي يمارس مهنة الصيد منذ 20 عامًا. وقد حكى لوسائل الإعلام أنه كان عائدًا بقاربه إلى البيت عندما شم رائحة كريهة بعض الشيء من مسافة بعيدة، وعندما تتبع المصدر رصد جسمًا غريبًا يطفو على سطح البحر، فما كان منه إلا أن قام بسحبه والعودة به إلى منزله، وتأكد من أنه عنبر الحوت. وقد فتح هذا الكنز أبواب الرزق أمام السناني الذي قال إنه تلقى عروضًا لبيعه من جهات عدة، بقيمة بلغت ملايين عدة.. وهكذا نجد أن العنبر لمن يستخرجه من الحيتان أو من يعثر عليه بالمصادفة يدر ذهبًا كما يقولون. ويوصف «العنبر» في المراجع العلمية والطبية بأنه: مادة لها قوام الشمع، رمادية وبيضاء وصفراء وسوداء، وهي كثيرًاا تجمع بين أكثر من لون، كما يجمع الرخام فيتجرع. وهذه المادة تكون رخوة أثناء خروجها من بطن الحوت، ولونها سنجابي مسود، ويكون حجمها كبيرًا، ويصل وزنها إلى 100 رطل. وأجوده الأشهب القوي، ثم الأزرق، ثم الأصفر، وأردؤه الأسود. هذا، والحوت الذي يوجد العنبر في أمعائه هو «حوت العنبر»، له رأس ضخم مليء بالزيت والدهن، وهو يطول حتى يبلغ 60 قدمًا. وهذا هو طول الذكر، أما الأنثى فيبلغ حجمها تقريبًا نصف حجم الذكر. العنبر غالي الثمن.. وحظ البحار الذي يعثر في البحر على قطعة من العنبر حظ كبير؛ فهو غالي الثمن. ومن أكبر القطع التي انتشلت من البحر قطعة وزنها 248 رطلاً، كان ثمنها 13000 جنيه إسترليني. وكثيرًا ما وجد البحارة قطعًا وزنها المائتان من الأرطال طافية على مياه البحار الاستوائية، وبعضهم وجدوها في أمعاء الحوت الذي صادوه. يحتوي العنبر على نحو 25 % من مادة تسمى (ambrein). ولهذا المركب رائحة تشبه رائحة المسك، وتكون قيمة هذا المركب كبيرة في تحضير أرقى وأجود أنواع العطور؛ إذ يعطيها رائحة خاصة، ويطيل بقاء رائحة هذه العطور مدة طويلة، ولا يمكن تحضير العطور غالية الثمن بدون العنبر.
وفي المجتمعات الخليجية والعربية وحتى الإسلامية يحظى العنبر باهتمام الكبار من الرجال والنساء في شراء واستعمال عطر العنبر منذ القدم. وكثير من العطور الحديثة غالية الثمن تجد من ضمن تركيبها مادة «العنبر»، بل تفخر شركات عطور عالمية بأن عطورها تعتمد على مادة «العنبر» بكل فخر واعتزاز.