د. محمد عبدالله العوين
إذا كانت أحداث 11 سبتمبر قد قسمت العالم إلى فسطاطين - كما قال من تولى كبر تلك الجرائم - فإن المنطقة العربية والإسلامية كلها بدأت مرحلة جديدة عنيفة من الحرب على الإرهاب؛ تنظيمات حزبية ونشاطا فكريا، ووافق تلك الأحداث تيسر استخدام تكنولوجيا الإنترنت واتخاذها منصة تعبير مفتوحة عن الآراء والأفكار والإبداع الأدبي والفني، والتوسع أيضا في البث التلفزيوني الفضائي، فاجتمعت أسباب عدة لحدوث انقلاب كبير في مفهوم النشر والشعور العميق بأن التعبير عن الرأي ليس عليه رقيب ولا حسيب كما كان الزمن القديم قبل انطلاق الإنترنت، وزاد ذلك الشعور العارم بنشوة الانفكاك من أسر القيود الرقابية اتجاه العالم كله إلى الحرب على الفكر المتطرف؛ فكأن أولئك الذين يشعرون أنهم يعيشون مكبلين بقيود المحاسبة من الأنظمة الرقابية انطلقوا من أسر خانق واستمتعوا لأول مرة بنسيم الحرية فامتلأ الفضاء الالكتروني والنشر الورقي بالجيد والرديء والنفيس والتعيس والحسن المليح والقبيح الكسيح، وأفرغ من كانوا يعيشون تحت كابوس الكبت ما صمتوا عنه عقودا قبل عالم ما بعد 11 سبتمبر الجديد.
وقد استهلت هذه الفورة العارمة المجنونة في النشر المتحرر من القيود التقليدية القديمة بما يشبه الفرحة بحرية التعبير رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع التي صدرت 1423هـ وقدم لها الدكتور غازي القصيبي بكلمات تشجيعية موجزة فطبطب على رأس الكاتبة الشابة متأملا فيها وفي جيلها من الكتاب والكاتبات السير على النهج الذي بدأه في الشقة والعصفورية، على أن «بنات الرياض» لم تكن بالمستوى الفني الرفيع الذي يخلدها في التاريخ الأدبي على الرغم من انتشارها الكبير وترجمتها إلى لغات عالمية عدة إلا أن صدورها في ذلك الوقت كأول عمل يضرب في تابو الحديث عن عالم المرأة الخفي في مجتمع لم يعتد البوح العميق في هموم وأفكار وسلوك النساء بشفافية كان السبب الرئيس في نجاح الرواية واتكاء كتاب الرواية وكاتباتها على اتخاذها قدوة في التماس مع المحظور والزيادة على ما صنعته الصانع؛ فتدافعت دور النشر إلى التنافس على إصدار روايات تضع على أغلفتها بصراحة رسما وعنوانا - من باب التحدي كما يبدو أو النشوة بحرية الكتابة في الممنوع - عناوين ورسوما صارخة كاشفة عن المضمون، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر رواية لطيف الحلاج وتحدثت عن فتاتين تعانيان من اضطهاد طائفي - كما تزعم الكاتبة - ولا تجدان سبيلا لتفريغ شحنات معاناتهما والتخفف منها إلا بممارسة الشذوذ، فالرواية في مضمونها العميق مؤدلجة ببعد طائفي ضيق وباحتقان طبقي ناقم إلا أن ما طغى على السياق الفني صور البطلتين في أوضاع غير لائقة، وهو ما نجده أيضا في رواية «الآخرون» لصبا الحرز عن المعاناة الطائفية المزعومة عند سابقتها وبطريقة التفريغ الجنسي أيضا، ولكن بروح أشبه ما تكون بالنقمة على المجتمع الآخر المختلف.
فالجنوح هنا عند الكاتبتين ليس جنسيا فحسب؛ بل ضرب عميق في معنى التآلف والانسجام مع المجتمع والتكيف مع الرؤية الفكرية المختلفة بما تستوجبه الروح الوطنية السامية المؤمنة بحتمية التعايش. وإذ كتبت المرأة عن الممارسة الخاطئة بأسلوب مكشوف وبجرأة غير معتادة كما أشرت إلى ذلك في الروايتين السابقتين؛ فإن الرجال لم يحرموا أنفسهم من التمتع - كما يبدو - بخوض غمار المسكوت عنه في الممارسة الخاطئة عند الرجال أيضا؛ فكتب مفيد النويصر «الواد والعم» وكتب عبد الله بن بخيت «شارع العطايف» وتكشف الأولى من عنوانها غرض الرواية؛ بينما تتخفى الثانية خلف العنوان البريء على سلوك شارع يمثل جيلا أو طبقة منحرفة بشتى الممارسات الشاذة وغير السوية كما صورها الكاتب وبأسلوب تصويري فاق كل الروايات المذكورة.
والحق أن هذا النوع من الكتابة المتكشفة أشبه ما يكون بمعاندة المجتمع أو بالانتقام منه بتعمد الكتابة في ما يؤلمه ويؤذيه التعبير عنه، وهي موجة أشبه بفترة مراهقة أوشكت على الانحسار، وسيدفن الزمن الساقط والرديء ويحتفظ باللآلئ والدرر كما هو مألوف ومعروف.