قريبا من أحاديث القرى، وعلى مقربة من أسمار حكاياتها، ومن فوق تلك العتبات المزهرة حكايات.. يمتد المكان امتداد بصر القاص.. وبصيرة القصة! عبر شرفات تاج السحابة، الذي شرعت أنوار القرى ترسم معالمه، المرصعة بقطرات الغيث، لتظل الأفئدة مشغولة بذلك التاج السرويّ، ليكتمل بين يدى - أم الحكايات - القصة ميدان المسامرة، ومضمار السرد، وفتنة الحبكة، في استنارة يتبارى فيها أقواس رماة المداد، من مختلف مناطق المملكة، في مهرجان القصة القصيرة (الأول)، الذي يجتمع إليه في رحاب الغيم، رواد القصة من مختلف المناطق، وفتيانها من مختلف المشارب، وموهوبيها من مختلف المراحل، ليكحلوا أهداب السحاب بمطر الحكايات! موشحين جملة بكادي تهامة، وأخرى ببعيثران السراة، متوجين مخيالها برياحين الأصدار، عندها لا يمكن للحكايات إلا أن تكتمل صورتها في أجمل مشهد فسيفسائي لتضاريس القصة في بلادنا!
وعلى مقربة - أيضا - من قصة الشنفرى، وإن شئنا قلنا مجموعته القصصية - لامية العرب - وإن أردناها رواية شعرية، كانت قادرة على الوفاء بعتبات هذه الفنون، التي تتجاوزها عمقا، وبناء، لنجد أنفسنا أمام مشهد سردي آخر من مشاهد السرد، وشاهد من شواهد مسيرة الأدب والثقافة في بلادنا، كيف لا يمكن لنا تصور ذلك، وفي فضاء الوطن ستة عشر جناحا، تحلق في فضاءات الأدب والثقافة؟!، لتتناوب قوادمها الإبداعية، وخوافيها الفكرية، في مد أجنحتها في رحلة (بانورامية)، تستلهم على خطى مسرى السحابة مسرى الشنفرى، ولامية الحكايات!
لقد اجتمع للقصة القصيرة في هذا المهرجان، ما لم يسبق أن اجتمع لها في مهرجان ثقافي، إذ يؤسس نادي الباحة الأدبي الثقافي بجهود رجاله، للعديد من المبادرات التي تعنى بهذا الفن، وتعتني بأربابه، ما يجعل من التكاملية بين الأندية الأدبية، أول المبادرات (العملية) التي تنتظر منها تحولا ثقافيا، فضاؤه الفكر والثقافة، وروحه الأدب وفنونه، ما يجعل من هذه الملتقى وأمثاله بمثابة مواسم «التحدي»، التي يتصدع على صخرة فعلها الثقافي الكثير من (طحن) الانتقاد لا النقد! إذ ما تزال «رحى الغبراء» جاهزة للدوران مع بارقة كل ملتقى، وسير كل قافلة مهرجان، إلا أنها مع كل ذلك لا تستطيع أن تصمد في عيون تشاهد منجزا، ولن تزكم أنوفا تشم شذا الإبداع، ولا أن تحير بصيرة مشتغل بفكرة، ولا تعكير منهل جار رقراق! فلا غرابة أن تكون (الشللية)، و(تكرار) الأسماء، أول طحن تلك الرحى! الذي يعيدنا مع كل لقاء وملتقى إلى أن نتساءل عن حقيقية وجود شلة بـ»حجم» هذه المؤسسة أو تلك؟!
إن الرهان الثقافي عبر مضمار الأدبي، تحد مركب، أول عتاده التكاملية التي تتخذ من تضاريس الفنون، ومناخ الثقافة، ما يواكب رحلة مناخ العام شتاء وصيفا، ومناخ فضاء الأدب والثقافة أينما أنيخت الركاب، لتظل المعارض المصاحبة، واحتضان تجارب الأجيال، والاحتفاء بالإبداع، وتكريم الرواد والمبدعين، أول السرى، إذ لا يمكن - في ظني - للإبداع، ولا الاشتغال بمنجزه، إلا أن يكون من بوادر شكره «ذكره»، بالاختصام عليه وحوله، والسهر لا لمسامرته، وإنما للغو فيه، أو معه! فكما القصة القصيرة جدا غدت فنا، في الوقت الذي لا يرى آخرون لأربابها وجودا، ولا لمسيرهم أثرا، فلا أظن أن تنامي الفنون، ومسير تمازجها حرفا ولونا وصوتا صورة، سيظل رهن قناعاتنا، فبعد أن أصبحت في ظني الرواية عجوزا، أمام شقيقتها الإلكترونية، فما يزال لـ»القصيرة جدا»، بين شقيقاتها الكثير من الدلال في مقتبل أيامها، التي أسمع (قصير) سمارها متواصلا عبر شرفات منازلهم الإلكترونية، فيما يزداد مزاحمة رواتها بالمناكب لمناكب أخر، في طرقات قراهم ما (بعد الافتراضية)!
وأصبح عني بالغميصاء جالسا
فريقان: مسؤول وآخر يسأل؟!
إنها القصة القصيرة يا شنفرى! فأيا كان اختلاف الفريقين، وتضارب توقعاتهم، واحتدام آرائهم، فلا بد للصراع من نهاية، و»إنما النشيد مع المسرة»!
** **
- محمد المرزوقي