د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تمر المملكة اليوم بحقبة إصلاحية جذرية تتطلب الكثير من التنظيم والتطوير والتوسع في إصدار النظم والتشريعات. فمن أهم الأمور الإصلاحية مجال التشريع لأنه يُعنى بإعادة صياغة التعاقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن بما يسهل أداء الدولة ويحفظ حق المواطن. والأصل في كافة التشريعات ألا ضرر ولا ضرار، وأن تكون التشريعات تنظيمية إصلاحية لا عقابية فقط، وأن تتناسب مع طبيعة المواطنة، وقدرة المواطن. ولذا فكثير من الدول المتقدمة تفصل السلطة التشريعية بقدر المستطاع عن السلطة التنفيذية، وعند الاختلاف بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يحتكم للسلطة القضائية التي تستند على التشريعات الأساسية أو الدساتير للفصل في هذه المسائل.
وتختلف التشريعات من حيث الأهمية والتراتبية والحجية وأهمها عادة التشريعات الأساسية أو الدستورية، فهي تضع الأطر الأساسية لكل ما يليها من تشريعات، ولا يسمح مطلقًا لأي تشريعات بأن تتعارض أو تتناقض معها. ومن أهم عيوب التشريع التناقض والتضارب بين التشريعات. وتعتبر السلطات البرلمانية أول مفسر للتشريعات وأول من ينظر في الأنظمة الجديدة ليتأكد من عدم معارضتها للنظم الأساسية التي تحدد الخطوط العريضة لما للمواطن وما عليه. ونسمع مؤخرًا عن منع الكونجرس لبعض أوامر الرئيس ترامب بحجة تناقضها مع الدستور الأمريكي. والدساتير ليست كتباً ربانية منزلة لا تتغير لكن تغييرها أو تعديلها يتطلب إجراءات معقدة من بينها موافقة الجهات التشريعية بأغلبية كبيرة.
ولدينا في المملكة نظام أساسي رائع للحكم ولدينا أيضًا جهات تشريعية تتمثل في مجلس الشورى، وهيئة الخبراء، ومجلس الوزراء، تتصاعد صلاحيتها بالتوالي، ولدينا أيضًا الأوامر والمراسيم الملكية التي تصدر عادة لما فيه مصلحة عاجلة للوطن والمواطن. ولا إشكال في التشريعات التي تصدر من جهات عليا، ولكن هناك بعض الأمور التي تحتاج لإعادة نظر فيما يتعلق بالأنظمة التي تصدرها جهات تنفيذية أو خدمية كالشركات والوزارات وتطبق على المواطنين قبل أن تتخذ صفة تشريعية، وهي غالبًا تتعلق بأنظمة عقابية تهدف لردع المواطن من ارتكاب بعض المخالفات.
وبعض هذه اللوائح العقابية قد لا تتناسب مع طبيعة المخالفات من حيث جسامة المخالفة أو الجرم المرتكب والضرر المترتب على هذه المخالفة، ففي كل التشريعات يتناسب حجم المسؤولية مع الضرر المترتب على الإخلال بها. والعقاب على المخالفة يأخذ أشكالاً مختلفة مثل منع المخالف من ممارسة حق ما، أو الحد من حريته (السجن)، أو الغرامة المالية، وفي جميع الأحوال لا بد من استصدار حكم قضائي في ذلك ولا يطبق تلقائيًا. والأمر الآخر المهم أيضًا هو تناسب العقاب مع الجرم، وتناسبه أيضًا مع قدرة المواطن على الإيفاء دونما ضرر بالغ عليه وخاصة فيما يتعلق بالغرامات والعقوبات المالية.
والملاحظ أن بعض الجهات التنفيذية لدينا تصدر أنظمة وعقوبات أحيانًا دون الرجوع للجهات التشريعية، وهي تعتمد في ذلك على عقوبات تلقائية دون اللجوء للجهات القضائية مثل إيقاف الخدمات أو تحويل المواطن لجهة إيقاف خدماته الائتمانية فيما يسمى لدينا «بسمة». فكثير من الخدمات التي تقدم من جهات كالكهرباء أو الاتصالات الماء أو المرور وغيرها لها صفة تعاقدية من طرفين: الجهة والمواطن، وعليه لا يجوز لها في عرف التشريع بأن تكون الخصم والقاضي والجلاد، ويجب ألا تكتسب تعاقداتها مع المواطن صفة الإذعان، بل على العكس فإنه في حالة الخلاف مع مثل هذه الجهات تحمّل الشركات المسؤولية في حالة الشك لأنها هي صاحبة الملاءة الأكبر، وهي الأقدر على التحمل. و«سمة» أيضًا جهة تجارية مستفيدة ماليًا من وجود أكبر عدد من العملاء على قوائمها، تستفيد كالمنشار من الُمدرِج والُمدرَج على قوائمها، بصرف النظر عن الضرر المترتب عليهم. والسجل الائتماني عادة يتعلق بالتعاملات التجارية التي ترتب عليها مخاطر، فالسجل الائتماني يبين مدى حذر المؤسسة التجارية في تعاملاتها التجارية أو شهيتها المعتادة للمخاطرة، ومدى نجاعة أجهزتها الإدارية، ولكن أن تتفرغ سمة لإدراج المتخلفين عن سداد فواتير كهرباء، أو اتصالات من الأفراد أمر غريب جدًا حتى ولو مورس مثل هذا الأمر في أمريكا. فالأفراد قد يمتنعون عن السداد لتعرضهم للأخطاء، أو سوء الخدمات أو حتى الظلم من الشركات المقدمة للخدمة. ويفترض في هذه الحالة ومن مبدأ المعاملة بالمثل، أن توضع الشركة على قوائم سمة في حال ثبت ظلمها أو إهمالها لمواطن. ومن هذا القبيل إيقاف جميع خدمات المواطن في حال ارتكب مخالفة واحدة، وخدمات المواطن وحساباته المالية لها في جميع الدساتير الحصانة التي تكون للمواطن نفسه ولا تمس إلا بأمر قضائي.