د. جاسر الحربش
عندنا في التغريدات المحلية وكتابات الرأي كم كبير من الرغبة في الانتقام من عقود الفساد الماضية، ويلفت النظر أنها تصدر تقريباً من نفس المروجين للتطبيع وللابتعاد عن فلسطين وحقوق الفلسطينيين. منتهى الغرابة أن يجتمع التشفي من المجرم المختلس المحلي والتسامح مع المجرم المغتصب الأجنبي.
قرأت الكثير مما غرد به وكتب وتذكرت المرحوم نيلسون مانديلا والكاردينال المحترم ديزموند توتو في جنوب أفريقيا بعد استسلام العنصرية البيضاء للعدالة. هناك وآنذاك اتفق السياسي مانديلا مع الديني توتو على إغلاق الباب في وجه التشفي وغريزة الانتقام. الاثنان الكبيران عقلاً وإنسانيةً أقنعا الرأي العام والبرلمان والمجلس القضائي بأن فتح باب المحاكمات لأناس قتلوا وسجنوا واغتصبوا ونهبوا لن يساعد على السلم الاجتماعي وبناء جنوب أفريقيا جديدة عادلة ومتصالحة، بل إن العكس هو المتوقع. الحل المقترح كان تقديم لوائح الاتهام المثبتة والاعتراف بها والتوقيع ثم الاعتذار العلني واسترجاع ما تم الاستيلاء عليه من أراضي المواطنين السود وممتلكاتهم.
قناعة مانديلا/توتو رأت أن جرجرة بضع مئات أو آلاف من المجرمين والفاسدين إلى المحاكم ثم التنكيل العقابي بهم سوف يوغر صدور مئات الآلاف وربما الملايين من البيض في الداخل والخارج.
الاثنان قالا في جلسة البرلمان إن التصرف مع المجرمين السابقين بعقلية إنزال العقاب المنصوص عليها في الدستور سوف تحول جنوب أفريقيا إلى دولة بوليسية بلون أسود، وسوف يترتب على ذلك سيول غزيرة عكرة ينتشر بداخلها فساد جديد بين القضاة والمحامين والشرطة والإدارات المدنية، بسبب الرِّشا التي سوف تدفع والضغوط والتهديدات وربما الاغتيالات المدفوعة الثمن التي سوف تنخر العهد الجديد في جنوب أفريقيا وتحوّله إلى جحيم.
بعد سنة أو سنتين من الاستقرار قال كبار القضاة والحقوقيين في العالم إنه لولا نصيحة مانديلا/توتو لسالت دماء كثيرة في جنوب أفريقيا وضاع الأمن وفشلت الدولة الجديدة، وعادت الدولة البيضاء القديمة بضغوط خارجية لتحقيق الأمن حتى لو اختلط بالعنصرية العرقية البيضاء مرة أخرى.
الآن، السعودية تخوض معركة إصلاح شاملة درست لمدة سنتين أو ثلاث قضائياً وإدارياً وسيادياً، ويتم التصرف مع أساطين الفساد بناء على ما تأكد حتى الآن من معلومات. إن كانت هناك محاكمات قضائية بسبب فداحة جرائم مرتكبيها فهي قضايا مؤجلة، ويجب أن تؤجل حتى تتضح الأمور. المهم حالياً أن تعود الفلوس إلى خزينة الدولة وتستمر الشركات التي استثمرت فيها تلك الأموال الحرام من قبل لأنها تحولت منذ ذلك الحين إلى مصدر رزق لآلاف الموظفين وعوائلهم. مهم أيضاً أن تستمر الالتزامات والعقود التي أبرمتها تلك الشركات مع شركاء أجانب أقوياء جداً خارج السعودية، وذلك للضرورة الاقتصادية أولاً ثم لتجنب عداوات شرسة لن نستطيع كسب المعركة ضدها لا على الأمد القصير ولا الطويل. الفلوس أولاً ًوالسلم الاجتماعي ثانياً ثم بعد ذلك لكل حادث حديث.