د. محمد عبدالله الخازم
أواصل الكتابة حول الفساد، مع الاعتذار لتكرار الكتابة وطرح الأفكار؛ إذ إنها قضية أولية؛ وتستحق دراسات وتشريعات، كما تستحق إلقاء الضوء عليها كل فترة وأخرى. كتأكيد عمق تأثير الفساد تشير المصادر إلى زيادة نسبة الوفيات بمقدار الثلث في الدول التي تصنف بأنها ضمن الأعلى فسادًا مقارنة بالدول الأقل فسادًا. كما أنه يتوقع أن 5 % من الاقتصاد العالمي مصدره الفساد، ويقدر حجم الرشاوى العالمية - والرشوة مجرد أحد مصادر الفساد - بنحو تريليون دولار سنويًّا، يدفعها الناس العاديون.
بعض مرتكبي الفساد - وهذا جزء من الثقافة العامة - لا يرى تلك الآثار، أو لا يدركها، أو يعتقد أن تصرفه مجرد حالة فردية، يجب أن لا تتحول إلى موضوع كبير. ويعمق هذا الشعور أن فضائح الفساد التي تطول بعض الأسماء المعروفة في مجتمعها تتحول إلى مجرد مادة تسلية إعلامية، تشبه الزوبعة، وبعد ذلك ينساها الناس. أحيانًا من مبدأ أن المسؤول أو التاجر أو الشخصية الكبيرة الفاسدة أو المفسدة يحظى بالتقدير ضمن مجتمعه الصغير، وربما الكبير، ويواصل مكاسبه، ولا يشعر بوخز الضمير، مما يشجع الآخرين على ارتكاب فعل مماثل. نرجو أن تتغير مثل هذه الصورة النمطية مع الحملات الأخيرة التي لم تستثنِ بعض الشخصيات الاعتبارية في هذا الشأن..
عندما نتحدث عن أسباب الفساد فهي عديدة. ولعل أهم أسباب انتشار الفساد في الدول النامية هو عدم قدرتها على تشخيص الأسباب، أو عدم القدرة على إعلانها ونقاشها ومعالجتها بشكل حاسم وشفاف. من الأسباب البارزة تركيبة الأنظمة الإدارية والمالية والاجتماعية والسياسية التي بُنيت وفق تركيبة لا تأبه كثيرًا بقضية تعارض المصالح والفصل بين الأدوار المختلفة، التشريعية والتنفيذية والرقابية. أيضًا من الأسباب عدم دقة الأنظمة وآليات تطبيقها؛ وبالتالي وجود الثغرات التي يمكن استغلالها بسهولة من قِبل المتجاوزين والفاسدين.
تلك الأسباب التي نحمِّلها للحكومات والوزارات والأنظمة، لكن هناك أسبابًا أخرى أكثر عمقًا، تتمثل في الثقافة، ووجود القيم التي يتشارك الناس فيها. فجميعنا نغضب من التجاوز في التوظيف لغير الأكفاء، لكن الحقيقة أن الواسطة والشفاعة وخدمة ابن العائلة والقبيلة من مبدأ (الأقربون أولى بالمعروف) تُعتبر ثقافة سائدة ومقدرة في مجتمعنا. في هذه الحالة لدينا مشكلة قيمية أكثر منها تنظيمية. نحن لدينا أعراف قبلية تنتقل معنا في أعمالنا الإدارية فيتحول المنصب لدينا من إداري تحكمه الأنظمة إلى إداري يفكر بعقلية شيخ القبيلة الذي لا يريد أن يقاطع كلامه أحد، ولا يريد أن يناقشه أحد، ويراه من حسن الإدارة فرض ما يراه بغض النظر عن تعمقه واستيعابه للتفاصيل كافة. ويقع في المحظور بسبب ذلك، وهو تمرير مشاريع وقرارات إدارية، تتجاوز النظام، سواء بقصد أو بغير قصد..
موضوع القيم الثقافية والاجتماعية يحتاج إلى عمل كبير على مستوى التعليم والفعل الثقافي والإعلامي، وعلى مستوى الأنظمة، وعلى مستوى إيجاد المسؤول القدوة، وغير ذلك. تغيير القيم أو غرس قيم إيجابية جديدة يُعتبر عملاً حضاريًّا تراكميًّا على مدى أجيال، وبالتأكيد يحتاج إلى مساحة أكبر من مساحة هذا المقال.