د.عبدالله مناع
فقدت مكة المكرمة.. صبيحة يوم الجمعة -ما قبل- الماضي.. علماً ثقافياً من أعلامها، وراية من راياتها الغنائية الكبرى.. بـ(فقدها) للشاعر الغنائي الكبير الأستاذ (إبراهيم خفاجي).. عن أربعة وتسعين عاماً، وبعد أيام طالت فيها أوجاعه، وطال فيها رقاده بـ(العناية المركزة) بمستشفى (الملك فهد.. بجدة).. ليكون من حظه -في النهاية- أن يُصلى عليه جموع الذين أدوا صلاة الجمعة لذلك اليوم بالمسجد الحرام، وليودعه.. آلاف مثلهم.. إلى مثواه الأخير في مقابر (المعلاة)، ليطير خبر وفاته أثناء وبعد ذلك إلى كل أنحاء الدنيا.. فيبكيه الآلاف من محبيه وعشاق فنه وأغانيه، التي لحنها أساطين الملحنين السعوديين.. من طارق عبدالحكيم إلى عبدالله محمد إلى سامي إحسان إلى سراج عمر، وشدا بها أساتذة الغناء.. بدءاً من الأستاذ طلال المداح.. إلى الأستاذ (فوزي محسون).. إلى فنان العرب: الأستاذ محمد عبده،.. لتسافر الأغنية بـ(أولئك) الموهوبين في كتابتها وتلحينها وغنائها -رغم عدم الاعتراف بها- إلى عواصم الفن والغناء في القاهرة وبيروت وتونس.. ومنها إلى أشهر العواصم الغربية: باريس ولندن ولوس أنجلوس وفان كوفر في أقصى الشمال الغربي الكندي.
فـ(المواهب) التي كافحت الإقصاء، وانتصرت على (التهيمش).. هي التي صنعت الأغنية المحلية، وأعطتنا شعراء عاميين كـ(بيرم) والأبنودي ومرسي جميل عزيز يكتبونها مثلهم: بسلاسة وصدق وعذوبة وجمال لتعبر عن الناس ومشاعرهم وعواطفهم.. كالأستاذ الخفاجي ولطفي عقيل زيني في مكة، وصالح جلال وأحمد صادق.. في جدة.. وغيرهم ممن قد أكون نسيتهم دون قصد.
ولو لا تلك المواهب الفطرية في كتابة الأغنية.. وفي تلحينها.. وفي غنائها.. لكنا أبعد الناس عما يسمى بالأغنية (المحلية).. وعما سمي فيما بعد بـ(الأغنية الخليجية).
***
بعد أن مضى يوم العزاء.. دون أن أتمكن من الذهاب إلى مكة.. لتقديمه لـ(أسرة) الأستاذ الخفاجي.. وقد كان يتوجب عليّ ذلك.. كان ينتابني شعور بـ(الأسى) لهذا التقصير غير المعهود، وغير المحمود.. خاصة بعد ذلك اللقاء الحميمي الأول والأخير، الذي جمعني به مصادفة حفل تكريم جمعية الثقافة والفنون بجدة.. لـ(فناننا) الكبير وموسيقارنا الجميل، ومغنينا الأجمل.. صاحب برنامج: (وتر وسمر) التلفزيوني.. ولحن قصيدة (سمراء رقى للعليل الباكي).. الذي أدار الرؤوس طرباً وشجواً.. الأستاذ: (جميل محمود).. فـ(وشج) ما بيني وبين الأستاذ (إبراهيم خفاجي).. وكأنني أراه ويراني كل يوم في منزله القديم بـ(سوق الليل)، لتنجدني (جمعية الثقافة والفنون بجدة).. بـ(دعوتها) لأعضائها ومنسوبيها لـ(المشاركة) في حفل تأبين الأستاذ الخفاجي الذي ستقيمه مساء يوم الاثنين -الماضي- أي بعد ثلاثة أيام من وفاته، وقد أقيم في موعده.. وشهده جمع غفير من الأدباء والشعراء وكتاب الأغاني والموسيقيين والعازفين.. كان في مقدمهتم (فنان العرب).. أو الابن الوفي للأستاذ الخفاحي: الأستاذ محمد عبده، والموسيقار الدكتور إدريس عبد ربه.. لنتناوب ثلاثتنا الحديث -عبر حوار أداره صحفينا المحضترم والمحبوب الأستاذ على فقندش- عن الأستاذ الخفاجي.. وحياته وتجربته الطويلة التي بدأت بولادته في حي نائية (يا ناعس الجفن) للأستاذ طارق عبدالحكيم عام 1364هـ.. وقبل أن يبلغ العشرين من عمره، ثم ليواصل مسيرته وعطاءه الفني الجميل الذي أخذ يتدفق.. لتلمع أغنية (لا تناظرني بعين) التي شدا بها الأستاذ محمد عبده.. فـ(رائعة) صيا.. فـ(انستنا يا حبيبي انستنا) التي غناها الأستاذ محمد عبده، والتي قيل أنها كتبت فيه.. بعد غيبة طالت به في (بيروت).. فلما عاد كتب الأستاذ الخفاجي مرحباً به: (انستنا يا حبيبي.. انستنا)، التي لحنها الموسيقار سراج عمر.. وشدا بها الأستاذ محمد عبده، وكانت بحق واحدة من المحطات الساطعة في حياة فنان العرب.. إلى أن جاء زمن (الجنادرية) ومواسمها السنوية و(أوبريتاتها) الوطنية التي كان فارس كتابها الأستاذ الخفاجي، والتي كان آخرها العرايس الخمس عام 1996م إلى أن جاءت فكرة وضع كلمات لـ(السلام الوطني) الذي كتبه موسيقياً الفنان المصري المهاجر إلى أستراليا: عبدالرحمن الخطيب.. والذي كلف الأستاذ الخفاجي بكتابتها من قبل وزير الإعلام شخصياً: الدكتور محمد عبده، والفنان سراج عمر بتبيتها في مواقعها من اللحن.
على أي حال.. ورغم أن الأستاذ الخفاجي.. كتب عشرات العشرات من الأغاني الوصفية والوطنية والعاطفية.. إلا أنه لم يترك (ديواناً) واحداً يحمل اسمه، إلا أن صديقه الصحفي المتقاعد (علي فقندش) كفاه مؤونة ذلك.. بإصداره مجلدين كل منهما يزيد عدد صفحاته عن الألف صفحة بعنوان: (أوراق من حياة الخفاجي).. ليكونا هما (الكتاب) و(الديوان) و(الألبوم) اللذين يتضمنان كل أغانيه وأوبريتاته وتفاصيل التفاصيل عن حياته وأعماله..
***
أعود في ختام هذا المقال.. لتلك الليلة الحميمية التي جمعتني -لأول وآخر مرة- بالأستاذ إبراهيم خفاجي في ختام حفل تكريم الأستاذ (جميل محمود).. عندما حرص مدير الجمعية الأستاذ (عمر الجاسر) على استبقاء ثلاثتنا بعد أن انتهت فعاليات تكريم الأستاذ (جميل محمود) ومشاركاته.. لمزيد من الحوار و(الدردشة) مع ثلاثتنا، ليستلفت انتباهي الأستاذ الخفاجي.. ببساطته وتواضعه وعذوبته.. لأسأله: أما زلت تذكر كيف تم الاتفاق معك على كتابة (كلمات السلام الوطي)..؟.
قال: نعم..
قلت: كيف..
فقال: بدأت (الحكاية) عندما ذهب الملك خالد إلى مصر في إحدى زياراته للرئيس السادات، فعزف في المطار السلامان: (المصري).. (بلادي بلادي لك حبي وفؤادي)، و(السعودي) الموسيقى -بدون كلمات- ليسأل الملك خالد.. وزير الإعلام آنذاك الدكتور محمد عبده يماني: ولماذا سلامنا الوطني.. بدون كلمات..؟.. فرد الدكتور اليماني قائلاً:
والله فكرة يا طويل العمر..؟
ليبدأ الدكتور اليماني بعد العودة من القاهرة.. بسؤال الأمير عبدالله الفيصل عن: من يرشح من الشعراء لهذه المهمة..؟
فقال له: ليس هناك أفضل من الأستاذ/ إبراهيم خفاجي.. لمعرفته الواسعة بالمقامات الموسيقية.
وقد كان.. حيث ثم الاتفاق معه على كتابة تلك الكلمات وفق شروط دينية وطنية دقيقة فلم ينته.. من كتابته إلا بعد ستة أشهر.. ليذاع لأول مرة في شهر شوال من عام 1410هـ، حيث كرمه الملك فهد.. ثم كرمه -ثانية- الملك عبدالله.
ليبقى اسم (الخفاجي).. مقروناً للأبد بـ(السلام الوطني) الذي صاغ كلماته.، وليس هناك من مجد أعلى ولا أسمى من مجد اقتران اسم الشاعر بـ(الوطن).