حمّاد السالمي
«الكل منَّا كان يتابع ويراقب ما جرى لمدينة جدة مع مطر الثلاثاء قبل الفارط؛ بكثير من الحزن والشفقة. هذه ليست المرة الأولى التي تغرق جدة في (56 مليمتراً) من مطر لا يدوم سوى سويعات. غرقت قبل ذلك في سنة 2009م، وفي حينها كانت معرضة لاكتساح سيول أوديتها الشرقية التي فاضت بسيول جارفة؛ بعد أن تعرضت لجرف من فساد مالي وإداري وأخلاقي ليس له مثيل.
«سألت نفسي بعد سيول جدة 2009م، وكذلك مع مطرها هذا العام: ماذا لو لم يتدخل (السيد مطر)؛ فيكشف لنا عن سوءات وعورات كانت تتخفى بفعل أضواء جدة الساطعة، في شوارعها وميادينها وأسواقها..؟!
«كانت جدة من أولى مدن المملكة رعاية وعناية باهتمام الدولة، فخصصت لها ميزانيات ضخمة لمشاريعها التي لم تغفل بنيتها التحتية، وفي مقدمتها: المياه والصرف الصحي وتصريف السيول. كنا إلى العام 2009م؛ نظن أننا في مدينة مكتملة الخدمات في هذا الجانب بالذات؛ حتى أيقظتنا السيول قبل ثماني سنوات على الحقيقة المرة. لم يكن هناك مجارٍ كاملة، ولا مياه كما نتمنى، ولا حتى تصريف سيول، ولا ما يدرأ خطر السيول المحمولة والتي تصب فيها في طريقها للبحر..!
«أين ذهبت المليارات..؟ بل أين ذهبت الضمائر التي كانت تتلقى هذه المليارات بهدف تطوير مدينة كبيرة هي ثاني مدينة سعودية بعد الرياض سكانًا ومساحة، وهي الواجهة البحرية للبلاد، وميناء الحجاج الأول..؟
«ماذا لو لم يتدخل (السيد مطر) مرتين في تاريخ جدة الحديث..؟ وهل مدينة جدة هي وحدها التي ترتعد خوفًا كلما غيمت السماء، وأبرق برقها، وأرعد رعدها..؟
«شكرًا للسيد مطر الذي زارنا في (جدتنا) مرتين خلال ثمانية أعوام، لكي ينبهنا إلى سوئنا، ويوقظنا من غفلتنا، ويدلنا على الخلل العظيم، ويحفزنا للعمل الجاد السريع، بهدف إصلاح ما أحدثه فسادنا في أجمل مدننا، وسرعة اجتثاث جرثومة الفساد وما يفسدون من بيننا، حتى لا يأتي رسول الرحمة هذا في زيارة أخرى، إلا وكل شيء سليم وصحيح، وعلى أكمل وجه.
«هل جدة وحدها هي المريضة بالفساد الإداري والمالي حتى تستلفت الأنظار، وتسلط عليها الأضواء طيلة ثماني سنوات..؟
«بالتأكيد لا. ففي كل مدينة ما يكفيها من فساد طال نصيبها من مشاريع التنمية والتطوير صغيرها وكبيرها، ويكفي للدلالة على ذلك، أن يخرج الواحد منا في أقرب حي له في مدينته وقت نزول المطر؛ ليجد أن الشوارع تحولت إلى بحيرات، وأن فناطيس البلديات تعمل ليل نهار لشفط هذه البحيرات لتسهيل الحركة من جديد في الشوارع، ويكتشف أن تمديدات الماء والهاتف والكهرباء قد أصبحت في العراء، عوضًا عن تقطع الخدمة لهذه المرافق في أكثر من حي، وجرف الإسفلت والأرصفة.
«من يصدق أن مدينة مثل جدة عرفت مشاريع الصرف الصحي قبل أكثر من ثلث قرن، سابقة بذلك العديد من مدن المملكة، لكن هذه المشاريع التي تكلفت سبعة مليارات ريال في وقتها، لم تتجاوز فتحات وأغطية لها في الشوارع أمام الأعين..! وأن مشروع دائري مدينة الطائف ما زال في (الكيلو رقم 1) منذ خمس عشرة سنة، وكذلك مشروع مدينة الطائف الجامعية؛ الذي مضى عليه خمس عشرة سنة هو الآخر وما زال تحت التنفيذ..! وغير ذلك من مشاريع الطرق، وجسور طريق الجنوب في الطائف التي يمكن أن تعتبر أنموذجًا لمشاريع متعثرة أو متوقفة منذ سنوات طوال، وهذه حالة يمكن أن نجدها بصورة أو أخرى في مدن الشمال والجنوب والشرق والوسط كذلك؛ فهي لا تقل أهمية عن حالة جدة التي تولى (السيد مطر) كشفها قبل ثماني سنوات؛ ثم جدد كشفه لها محذرًا ومنذرًا قبل أسبوعين.
«إن كل مشروع يتعثر ويتأخر أو يُسلم بمواصفات مخالفة للعقد؛ يحمل دلالة على فساد إداري ومالي يعيث في نفوس المؤسسات التي تقف خلفه. من أوجب الواجبات؛ أن نقاوم هذا المرض بجميع أنواعه وفي شتى مجالاته. إن ما يجري اليوم في العهد السلماني الشفاف؛ هو تتبع للفساد وملاحقة للفاسدين في أنفسهم المفسدين لغيرهم في كافة مؤسسات الدولة ابتداءً من رأس الهرم، وينبغي بعد ذلك؛ نشر نتائج هذا التتبع، وتسليط الضوء على هذه الحالات، وتمكين المجتمع ووسائل الإعلام من المشاركة في هذه الجهود المباركة، لأن هذا من أوجب الواجبات الوطنية على الجميع.
«إن مكافحة الفساد مهمة صعبة دون شك، وتتطلب الكثير من الجهد والصبر والتضحية، ويلزمها قوة وشجاعة وضمائر حية تديرها، حتى توقظ في صدور الناس ضمائرهم الحية التي ترفض الظلم، وتمنع الغش، وتقاوم الرشوة. وأن تسن قوانين صارمة تقف في وجه كل الفسدة في البلاد.
«ستصل كاسحة الفساد السلمانية ذات يوم إلى كل مدينة كبيرة كانت أو صغيرة، فهذا ما قطعه قائد هذه البلاد الملك سلمان -رعاه الله- على نفسه في يوم صدور أمره الكريم بتشكيل لجنة عليا برئاسة سمو ولي العهد لمكافحة الفساد. قال: (.. وقد حرصنا منذ تولينا المسؤولية؛ على تتبع هذه الأمور، انطلاقاً من مسؤولياتنا تجاه الوطن والمواطن، وأداء للأمانة التي تحملناها، بخدمة هذه البلاد، ورعاية مصالح مواطنينا في جميع المجالات، واستشعاراً منا لخطورة الفساد وآثاره السيئة على الدولة سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً، واستمراراً على نهجنا في حماية النزاهة ومكافحة الفساد والقضاء عليه، وتطبيق الأنظمة بحزم على كل من تطاول على المال العام ولم يحافظ عليه، أو اختلسه، أو أساء استغلال السلطة والنفوذ فيما أسند إليه من مهام وأعمال، نطبق ذلك على الصغير والكبير، لا نخشى في الله لومة لائم، بحزم وعزيمة لا تلين، وبما يبرئ ذمتنا أمام الله سبحانه، ثم أمام مواطنينا، مهتدين بقوله تعالى: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
«الأعمال العظيمة تقف وراءها نفوس عظيمة، وحملة مكافحة الفساد من أعظم أعمال الإصلاح وأجلّها. هذا.. وإن رغمت أنوف:
إذا سلكت إلى الإصلاح مسلكه
فأنت في رأيهم بالكفر متهم