تحكي القصة وقائع حصتين مدرسيتين مضى عليهما عشرون عامًا, والراوي الذي كان يومذاك طالبًا يعيد تذكر ما جرى فيهما، حيث طلب منهم معلمُ التربية الفنية الأستاذ «عويص» أن يرسموا الشيطان، فشرع التلاميذ يرسمونه بحسب ما تسعفهم خيالاتهم، فسعد رأى أمريكا هي الشيطان، والطالب يوسف كان يمثل في ذاته شيطانًا لكثرة المشكلات التي يفتعلها في المدرسة، ومعاذ عبَّر عن الشيطان بشاخص جمرة العقبة، وعودة رسم امرأة، ومختار ابن أمين المكتبة رسم كتابًا لأنه يعتقد أن بعض الكتب وبعض المؤلفين ليسوا سوى شياطين, ومنصور رسم فمًا مفتوحًا ولسانًا أفعوانيًا طويلاً, وسلطان رأى الفقر شيطانًا ورسم ورقة نقدية ليبعد عنه شبح الفقر. وتمكن الراوي من مشاهدة رسومات كثيرة للشيطان أثناء خروجه إلى دورة المياه: سيجارة, شيشة، حيات وثعابين... كل ذلك وهو لم يرسم شيئًا إذ كان مشغولًا بمراقبة أستاذه وهو يناقش الطلاب, ولأنه -أيضًا- لم يهتدِ إلى فكرة ملائمة, مما عرَّضه لعقوبة الوكيل «ماجد» الذي انهال على كفيه بالعصا فنكأ جرحًا في إصبعه كان قد تخثر فسالت الدماء, وبعدها أخذ الراوي - وهو في حمأة السخط- يعصر دمه على اللوحة البيضاء حتى تبقَّعت بالدم، ثم سلّمها إلى الأستاذ الذي دهش منها، فعلّقها في الأسبوع التالي في بهو المدرسة بعد إحاطتها بإطار ذهبي فاخر, وكتب تحتها:
«عنوان اللوحة: الشيطان - الخامة المستخدمة: دم بشري».
* * *
يُعدُّ العنوان «علامة دالة على النص» وجزءًا مندمجًا فيه, وهو مفتاح دلالي للنص ومؤسس لنقطة الانطلاق الطبيعية فيه. والعنوان بوعي من الكاتب يهدف إلى تركيز انتباه المتلقي على شيء معين, بما «أنه تسمية مصاحبة للعمل الأدبي مؤشرة عليه»(شعيب حليفي؛ هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل).
والعنوان يلفت انتباه القارئ إلى الطريقة التي تجلى فيها الشيطان للراوي تحديدًا, من خلال ضمير المتكلم العائد على الراوي (رسمتُ). فالشيطان رُسم بكيفيات مختلفة, ولكن أهمها هي تلك التي رسمها السارد؛ لأن رؤية النص العميقة تنقدح من ثنايا تلك اللوحة التي أنجزها. فالطلاب تخيلوا الشيطان شيئًا خارجيًا, ولكن الراوي صنعه من دمه وكأنه جزء من كيانه.
و»رسمتُ» لا تعني فقط اللوحة التي رسمها الراوي من دمه, بل تشير أيضًا إلى أن الشيطان رسمته مشاعرُ الراوي في بعض الأحيان، كما حدث مع يوسف الذي لم يحضر حصة الرسم لأنه معاقب، وقد جعله الراوي شيطانًا لفرط شقاوته. فيوسف والدم المسكوب على اللوحة هما شيطانان في تصور الراوي ولكن الأول واقعي والثاني رمز.
والقصة مقسمة إلى مقاطع تشدُّ بين أواصرها وحدةُ الهاجس وتحقق لها التماسك, حيث وُظفت الأحداث المعروضة والشخصيات الكثيرة لإبرار موقف واحد. وحرصُ الراوي على تحديد زمن القصة, وتحديد الفاصل الزمني الذي يقف بينهما: «رغم مرور 20 عامًا على حصتين مدرسيتين», يدل على رسوخ ذكرى هذه الحادثة في نفسه, فأي حدث يمتزج بالعاطفة يُحفر في الذاكرة: «ما زلت أذكر جيدًا تلك اللحظة التي فاجأنا فيها الأستاذ عويص, معلم التربية الفنية, بموضوع جديد وغريب. طلب الأستاذ عويص منا جميعًا أن نرسم..الشيطان».
إنَّ أحداث القصة بدأت في الماضي وانتهت فيه، وهي تسير في خطية متصاعدة من نقطة البداية حتى النهاية، ولكن ثمة استرجاع (ارتداد إلى الخلف) يكسر خطية الزمن في القصة حينًا. وقد يكون الاسترجاع خارجيًا كما في «الشيطان الأكبر», لأنه يعرض أحداثًا سابقة لنقطة الانطلاق الزمني, فقد قطع الاسترجاع زمن السرد في «الشيطان الأكبر», حين وقف الراوي قص الأحداث وارتد إلى الوراء ليحكي خبر «إشفاق» العامل الباكستاني الذي كان يسبُّ أمريكا, ويراها ناشرة الفساد والرذيلة في العالم ويصفها بأنها «مخ الشيطان», ومع ذلك يؤْثِر الصناعات الأمريكية على غيرها. إن ورود اسم إشفاق وذكر مقولته قد لا يبدو مقنعًا, ولكن هذا الاسترجاع يجعل المتلقي يفهم الصلة الوثيقة بين سعد والعامل الباكستاني, الذي كان يعيش تناقضات عجيبة في موقفه من أمريكا وكان يتحدث كثيرًا إلى سعد حديثًا ملؤه الحماس, مما جعل سعد يتأثر به ويستشهد بقوله، وجعلنا نرى هذا التمزق في الموقف.
ولو تأملنا في اسم العامل لوجدنا أن الكاتب يرمي إلى غاية بعيدة, فمثل هذه الفئة التي تناقض أقوالها أفعالها، وتتهم الآخرين بالشر وتراهم ممثلين له, في الوقت الذي لا تبحث عن وسيلة لمقاومتهم, بل تبدي خضوعًا كاملاً لهم يصل إلى حد التعلق؛ هي بحاجة إلى الإشفاق. وجعله من الجنسية الباكستانية تحديدًا يعزز هذه الفكرة؛ لأن باكستان دولة مسلمة من العالم الثالث تملك مفاعلاً نوويًا, ومع ذلك ليست بأفضل حال من دول العالم الثالث الأخرى.
إن لجوء السارد إلى هذا الاسترجاع يعود إلى رغبته في إفادة المسرود له بما لديه من معلومات حول هذه الشخصية, حتى يكون هو والمسرود له في المرتبة نفسها من العلم والمعرفة. وقد توخى السارد هذه الطريقة ليحمل المسرود له على أن يتفهم حقيقة تصورات الشخصية (سعد)، وهو بذلك يعريها لنا من خلال سبر أغوارها وكشف تناقضاتها.
وأما الاستباق, الذي يلمح إلى أحداث لاحقة ستقع فينهض بوظيفة تنبيهية وتعليمية, و»يشد المتقبل للعمل القصصي ويرغبه في الاستزادة ومواصلة التعرف على النهاية» (حسناء بنسليمان؛ بنية الخطاب السردي) فإن القصة تخلو منه.
وتتفاوت سرعة الإيقاع الزمني في القصة من مقطع إلى آخر بحسب التقنيات الموظفة, فثمة لحظات يكون فيها الزمن بطيئًا, وذلك حين يوقف الوصفُ حركة السرد ويُعلَّق الحكاية, مثل وصف أمين المكتبة وابنه أحمد في «شيطان الماضي»: «كان أمين المكتبة في مدرستنا تلك، شيخًا كبيرًا وفيلسوفاً مهذارًا، ذا لحية بيضاء طويلة تغطي صدره، وغضون عميقة تشكل أبرز ملامح وجهه، حتى بدا أنه قادم من أغوار زمن ماضٍ سحيق، يرتدي نظارات سميكة، وكان محدودب الظهر بشكل لافت، برّره الكثيرون بأن الشيخ أحمد قد أفنى عمره في القراءة العميقة في مختلف العلوم والفنون المتعلّقة بالماضي والتاريخ القديم جدًا، دون أن يكون له إنتاج فكري أو أدبي ولو مقالة في صحيفة. وكان للشيخ أحمد ابن في فصلنا، يبدو شارد الذهن أغلب الوقت، وكأنما يستمع لأناس غير موجودين في الواقع ويأنس بهم، ومع ذلك كان مختار ابن الشيخ أحمد شديد الاعتداد بنفسه متكبّرًا ليس له خليل أو صديق». هذا المقطع الوصفي الطويل نسبيًا أحدث وقفة في سيرورة الزمن, والوقفة تقنية تكرر استخدامها في القصة فهدّأت من الإيقاع الزمني. وحين لا يُحدِث الوصفُ وقفةً في الزمن لامتزاجه بالسرد وقصره فإن إيقاع الزمن لا يهدأ،كما في وصف معاذ في «الشيطان الأسمنتي»: «نادى الأستاذ عويص معاذًا الذي كان طالبًا متدينًا, وطلب منه إبرار لوحته أمام الطلاب».
أما المشهد (الحوار) فمن شأنه -إذا خلا من تدخلات الراوي- أن يحدث مساواة تقريبية بين زمن الخطاب وزمن الحكاية ويكاد يماثل بينهما. والحوار رغم وجوده بوفرة في بنية الحكاية إلا أنه لم يظهر سوى مرة واحدة في بنية الخطاب مصحوبًا بتدخلات الراوي، وذلك في «الشيطان الفقير»: «هل هناك أي علاقة بين المال والشيطان؟. قال سلطان: إنه ليس هناك سوى علاقة واحدة في رأيي بين الشيطان والمال.. وهي أنك تستطيع أن تشتري كل شيء بالمال حتى الشيطان نفسه!. سأل الأستاذ عويص سلطانا: إذن، ما الذي دعاك لأن ترمز للشيطان بالمال؟! «. وبدل الحوار اكتفى الراوي بنقل شيء من أقوال الشخصيات أو إعادة صياغتها. فالنص يراوح في نقل أقوال الشخصيات بين الخطاب المباشر (المعروض) والخطاب غير المباشر (المسرود). ومن الخطاب المباشر ما تفوه به مدير المدرسة في حق الطالب يوسف: «أي يوم أغبر أتى بك إلى هذه المدرسة؟!»، «أنت مصيبة حذفت علي!!», «أنت معجون بماء الشياطين» وغيره. ومن الخطاب غير المباشر كلام العامل إشفاق الذي حوره الراوي: «كان إشفاق يعيد ويزيد باللغة العربية المكسرة، في كلام طويل عريض فحواه أن الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية هي سبب كل مشكلات العالم...إلخ». وكذلك: «علق الأستاذ عويص على لوحة معاذ وذكر بأن مناسك الحج ترتبط بأحداث سيرة نبي الله إبراهيم...إلخ».
وبالتأمل في النص نجد أن الخطاب غير المباشر أكثر من الخطاب المباشر. والسارد بنزوعه إلى الخطاب غير المباشر «قد قصد عدم الإطالة؛ لأن المشهد المرتكز على الحوار والكلام المنطوق والمباشر يستغرق وقتًا أكثر ومساحة نصية أطول». إن «هذا الأسلوب في الخطاب يُبِّلغ أكثر ما يمكن من المعلومات للمتلقي في أقل ما يمكن من المساحة النصية «(حسناء بنسليمان؛ بنية الخطاب السردي), لأنه يخضع لتصرف الراوي. ولكن حين تبرز أهمية الأبعاد السيكولوجية واللسانية للمتكلم من خلال التلفُّظ, ويصبح لها دور في بناء المعنى يستخدم الراوي الخطاب المباشر, كما فعل مع كلام مدير المدرسة.
ويبدو الزمن القصصي سريعًا أحيانًا بفضل تقنية الحذف التي استخدمت مرة واحدة في نهاية القصة عندما قال الراوي: «وفي الأسبوع التالي», حيث غُيبت فترة زمنية محددة دون ذكر أي شيء فيها. وهذا لأنها لا تهم الراوي وليس فيها شيء يفيد في تطوير الأحداث, مما أسرع بوتيرة السرد.
وأيضًا أسرعت تقنيةُ التلخيص بالزمن في بداية القصة إذ أُجملتْ في عبارات قليلة نجاحات عديدة حققها الأستاذ «عويص» خلال السنة الأولى:» ملأت لوحاته الأسرة ردهات وصالات المدرسة في تلك السنة التي قدم فيها إلى مدرستنا.». وطي مسافات زمنية والتركيز على لحظات منها يسرعان بالسرد, ويُبقيان من تلك المدة الزمنية المليئة بأشياء كثيرة ما يهم الراوي, وهو أن الأستاذ عويص استطاع أن يحول المدرسة إلى إتيليه تُعرض فيه أعمال الطلاب الموهوبين.
وكما يؤثر الوصف في سرعة الزمن، فإن للوصف دورًا كبيرًا في بناء الخطاب القصصي, وقد انصب بالدرجة الأولى على الشخصيات ليكشف عن هيئاتها الخارجية وطبائعها وبيئاتها, وأقل من ذلك وصف الأشياء, وأما المكان فحظه من الوصف شحيح. وأدى الوصف وظيفتين رئيستين في هذه القصة هما:
1/ التمهيد والتطوير:
وذلك حين يتصل الوصف بحركة الأحداث وقد يكون مهيِّئًا لها, وقد يكون فاعلاً في تطويرها أيضًا (الصادق قسومة؛ علم السرد). وتبرز هذه الوظيفة في وصف عودة في مقطع «الشيطان الناعم»، فقد وُصف بأنه أكبر الطلاب سنًا لكثرة رسوبه، وأنه يتقن الرسومات الجميلة التي تدور حول النساء والحب. وهذا الوصف مهّد لرسم لوحة المرأة /الشيطان، ويسّر على الراوي إدراك كنه تلك اللوحة وعلة تكتم عودة والأستاذ على موضوعها.
ومثله وصف أمين المكتبة وابنه مختار في مقطع «شيطان الماضي», فالأب شيخ كبير وفيلسوف, ومهذار، وليس له إنتاج فكري أو أدبي رغم أنه أفنى عمره في القراءة. وأما ابنه فشارد الذهن، شديد الاعتداد بالنفس متكبر، وليس له خليل. هذه الأوصاف هيأت مختارًا لرسم صورة كتاب قديم بجواره ريشة, وتعليقه على اللوحة بأن بعض المؤلفين والقراء والكتب شياطين. وهو تصور غريب ولكن مهد له الوصف المتقدم, الذي عزز فكرة الجمود والانطوائية ورفض الآخر وعدم القدرة على الإفادة منه. وكذلك وصف الوكيل ماجد بأنه «كان مؤمنًا بالضرب كوسيلة للتربية وحفظ النظام المدرسي», وهذا كان فاعلاً في تطوير الأحداث لأنه ضَرَب الراوي.
2/ وظيفة التفسير:
وهنا توصف «الشخصيات والملابس والأثاث وغيرها بما يساعد على تفسير بعض ما سلف من سماتها أو أعمالها أو أحوالها» (الصادق قسومة؛ علم السرد). مثل وصف الأستاذ لمختار حين رأى لوحته «ابن الوز عوام». ومثل حديث الراوي عن زميله منصور ومحاولته شرح سبب صمته الدائم في «الشيطان الصامت». وكذلك وصف يوسف بحمرة البشرة مما جعله يطلق عليه الشيطان الأحمر. أيضًا وصف عودة في «الشيطان الناعم» بأنه شرير وشرس، بعد أن ذكر الراوي عدم جرأة الطلاب على أن ينظروا إلى محتوى لوحته. وهذه الأوصاف من شأنها أن تفسر ما يسبقها من الأحوال والأحداث والسمات وتجليها.
أما زاوية الرؤية فاستخدمت في القصة الرؤية المصاحبة، أي أن الراوي يتساوى مع الشخصية في المعرفة «فلا يقدم لنا أي معلومات أو تفسيرات، إلا بعد أن تكون الشخصية نفسُها قد توصلت إليها» (حميد لحمداني؛ بنية النص السردي), وهو يروي بضمير المتكلم المشبع بالذاتية لأنه راوٍ مشارك، وله دور في صناعة أحداث القصة وليس مجرد مراقب للأحداث. واختيار هذه الزاوية يلبي طموح القاص, فكل شيء سيُذكر عن الشخصيات يُعرض من زاوية الراوي فيتلون بذاته، ولم تكن صورة يوسف في النص إلا صنيعة شعور الراوي تجاه هذا الطالب السيء. ورغم أننا لا نعرف الكثير عن الراوي: اسمه, وصفاته، ومن يكون، إلا أن الرؤية المصاحبة كانت مناسبة لفكرة القصة, التي تقتضي القدرة على الملاحظة الدقيقة لأحداث ستقع في حيز مكاني وزماني محدود.
* * *
الطرافة في هذه القصة تكمن في أن الطلاب سيرسمون شيئًا لم يروه في حياتهم قط؛ وهو الشيطان. ولأن الشيطان شيء غير محسوس ومدرك بالذهن, أنشأ الطلاب من مخيلاتهم له صورًا محسوسة مستمدة من ثقافتهم وبيئاتهم. والشيطان لا يُنظر إليه دائمًا بسوء فهو رمز الشر والخطيئة ولكنه في المقابل رمز المعرفة وكبرياء العقل والقياس المنطقي (محمد عجينة؛ موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها), ولا ننسى أن من الناس من يمجد الشيطان ويعبده. لذا لم تكن تلك التخيلات المبتدَعة للشيطان تدل دائمًا على الكره والاحتقار, فمنها ما يدل على شدة التعلق والانجذاب كما في «الشيطان الناعم».
والقصة - من خلال العنوان - وجَّهتْ اهتمام القارئ منذ البداية إلى الشيطان الذي رسمه الراوي، ورغم تعدد التخيلات التي أنتجت رسومات متنوعة للشيطان إلا أن المغزى من القصة تكمله هذه النهاية البديعة. لنتأمل طريقة وصف الراوي لوكيل المدرسة وهو يوقع العقابَ عليه: «انهال الأستاذ ماجد على كفيّ بضربات لاسعة متوالية. كنت أرى الشيطان ينساب من عينيه ووجه المتجهّم إلى وسيلته التربوية ليتحوّل ألمًا يغرس في روحي الشابة بذور الشيطنة», لقد رأى الشيطان في عيني الأستاذ ماجد القاسيتين ووجهه المتجهم, ثم انتقل هذا الشيطان من الأستاذ إلى الطالب فأصبح هو شيطانًا آخر! ومعنى هذا أنه يرى الإيذاء والتعنيف شيطانًا, وما لبث أن تحول هذا الشعور إلى لوحة. كان سيلان الدم من جرح لم يندمل بعد كفيلاً بإيقاف فعل الضرب، ولكن العنف له امتداداتٌ في الروح مستمرة، لذا تواتي الطالب فكرة غريبة من وحي إحساسه بالقهر والظلم نتيجة التعنيف الذي تعرض له: «قرّرت أن أقدّم للأستاذ عويص أي شيء فلن ينالني من عقاب أكثر من إهدار كرامتي أمام زملائي وأستاذي. رفعت إبهامي فوق ورقة الكراسة البيضاء، وعصرتها حتى تقطّر الدم منها، فتبقّعت اللوحة البيضاء ببضع من قطرات الدم. أعجبتني الفكرة فواصلتها حتى تبقّعت اللوحة تماما بالدم». إن الطالب حين يعصر دمه على اللوحة يجسد طبيعة العنف المعدية, التي دفعته إلى الثأر من خصمه من خلال تدمير الذات وإيذائها, وهذا يحدث حين يحطم العنف تماسك الإنسان ويشعره بعبثية الحياة فيعاقب نفسه:» كنت متأكدًا أن الأستاذ عويص سيتبع هذا السؤال بالاستفسار عن فكرة لوحتي وكنت سأجيبه بأن الموضوع عبث في عبث كالحياة نفسها». وبعد أن عُلقت اللوحة في مكان شرفي يلحظ الطالب أن اللون الأحمر لدمه تغير إلى الأسود, فاللون الأحمر, الذي يرتبط بالتعنيف والقسوة والتطرف, يتحول إلى لون يرمز إلى الشر والخسارة والموت (ريتا طانيوس؛ إنه اللون).
«عنوان اللوحة: الشيطان- الخامة المستخدمة: دم بشري».
إن الشيطان المرسوم بالدم في هذه اللوحة يرمز إلى الإيذاء والعنف الذي يدمر البشر ويهدر كرامتهم. لذلك وصف الراوي - من قبل - يوسف بالشيطان, لأنه لا يألو جهدًا في إيذاء الناس وإلحاق الضرر بهم. حتى احتفاء الأستاذ عويص باللوحة المصنوعة من روح مسحوقة, دون أن يبدي أسفًا للأذى النفسي والجسدي الذي لحق بها, هو تجلٍ من تجليات الشيطان.
** **
د.تهاني المبرك - كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود