حتى الآن ما زالت العديد من الدراسات النقدية تبحث عن هوية وملامح الفن القصصي المحلي من ناحيتي الشكل والمضمون، اللتين يميزانه عن غيره من مجمل الفن القصصي في عالمنا العربي، ولعل من أبرز الرواد الذين كتبوا عن القصة القصيرة والرواية المحلية: الدكتور منصور الحازمي، والدكتور نصر محمد عباس، والدكتور طلعت صبح السيد، والدكتور يوسف نوفل، والدكتور محمد الشنقيطي والدكتور محمد زيدان .. وجلّهم ممن حاول تأسيس هوية محددة لهذا الفن القصصي.
إلا أن البعض يرى أن معظم هؤلاء الكتاب وقفوا من القصة القصيرة موقفاً سلبياً من خلال تناول تلك التجارب القصصية، ولا نعني بذلك الموقف السلبي، ذلك الموقف العدائي من القصة والقصاصين، إنما هو ذلك التناول الجزئي في دراسة القصة نقدياً، وإذا استثنينا بعض هؤلاء، فإن من كتب عن القصة لم ير فيها إلا بعدها التاريخي فقط، لذلك فقد تناولها كمؤرخ ولم يتناولها كناقد، والبعض الآخر تناولها بعد أن نسفوا – في مقدمات كتبهم – هوية القصة المحلية، وجذورها المحلية. ولعل تبرير هؤلاء أن القصة بشكلها الفني الحديث ما هي إلا تقليد أعمى للفن القصصي الغربي.. لذلك فقصصنا المحلية لا تعبر عن واقعنا الاجتماعي المعيشي ولا تعكس ثقافتنا ولا هويتنا، وبالرغم من أن هذه المداخلة لا تخلو من الصحة إلا أنها نظرة نقدية متطرفة تجاه القصة القصيرة وروادها.
أما البعض الآخر من النقاد.. فإنهم انزلقوا بإفراطهم في تناول هذا الفن، وتوجهوا للأفراد من قصاصينا وكالوا لهم المديح والثناء دون حساب، وإذا كنا في الوقت ذاته نقدر تجارب هؤلاء القصاصين وأصالة عطائهم.. إلا أن جانب المديح والإطراء فاق جانب النقد الفني النزيه عند تناول مجموعاتهم القصصية.
إلا أن هناك قلة من نقادنا المحليين ونقاد العرب المقيمين في ضيافتنا بقيت صامتة حيال الحركة القصصية المحلية، وإذا تحدث البعض من هؤلاء فحديثه ينصب على تقويم التجربة الشعرية المحلية ولا يتطرق للفن القصصي، إما خوفاً أو تحرجاً أو مجاملة.. لبعض كتاب القصة، إلا أن التشاغل هو أكثر الأعذار التي يبديها هؤلاء حيال صمتهم عن تناول تجربتنا القصصية، علماً أن ساحتنا المحلية هي بحاجة ماسة لرأي نقادنا الكبار لتحديد الأبعاد التشكيلية – التكوينية في مسارنا القصصي. من الجانب النقدي ولتحديده من الجانب الإبداعي أيضًا، فحرية الإبداع مكفولة وهي حق للأديب لا للنقاد، كما إننا بحاجة لهؤلاء النقاد الكبار لرسم هذه الأبعاد الفنية في الفن القصصي دون مجاملة لأحد وتحديد موقعه الصحيح على خريطة العالم العربي الإبداعية، وتسليط الضوء على نقاط الضعف فيه وانحرافاته ومشكلاته.. حتى يمكن حلها بأسلوب موضوعي بعيداً عن الانفعال والارتجالية.
ورغم كل ذلك فما ينطبق بالأمس القريب عبى ساحتنا الإبداعية، قد لا ينطبق اليوم على مجمل هذه الساحة، بعد تكاثر ونضوج التجربة السردية اليوم. ولعل الأسماء الإبداعية الذي يمتلئ بها المشهد الثقافي خير دليل على ذلك من أمثال: عبده خال، ومحمد حسن علوان، وخالد اليوسف، وفهد المصبح، ورجاء عالم وغيرهم بالعشرات، ممن أثرا السرد المحلي بجميل نتاجهم الإبداعي.
2 - سقوط في قارورة
لا أدري بالتحديد، كيف سقطت إلى هنا، ومنذ متى وأنا أعوم، بلا وجهة. وجدت نفسي... أعوم... وأعوم.. وأعوم في قارورة عطر.
فشلت كل محاولاتي للتذكر، وكلّت يداي ورجلاي من التجديف. تزكم أنفي رائحة العطر الفوّاحة، فتسكرني، تربكني، تأسرني، فترتخي عضلاتي المشدودة قليلاً، من فرط الإجهاد والنشوة. أتطلع إلى الأعلى، فأرى بوضوح عنق الزجاجة. وأتحسس بأصابعي جدران القارورة الزجاجية. أتأكد من سطحه الأملس، فيزداد يقيني أنني في عالم القارورة، أعوم.
لا أتذكر الآن، كيف سقطت في هذه القارورة، ولا متى سقطت فيها. ولكني أتذكر بوضوح محاولاتي المتعددة للخروج. حاولت لآلاف المرات أن أثبت رجليّ على جدران القارورة، وأقفز، لأتعلق بحافة الفوهة. ولكن كل محاولاتي كانت بلا جدوى.
رائحة العطر النفاذة، تسحبني إلى القاع. تتركني من جديد طافيًا على بحر العطر، بين الحياة والموت، لأزمان طويلة. ولكنني أتسلى برؤية شبحي منعكسًا على جدران القارورة. أتطلع إلى الأعلى، لأشتم نسمة هواء نقية، من الأعلى، خالية من العطر. أحاول أن أتفقد غيمة بعيدة عابرة في السماء، ولكن تتكسر كل محاولاتي.
خيّل إلي أنني رأيتُ عيني بارزتين، على جدران القارورة. وأن ساقيَ التفّتا على بعضهما البعض. لم أكن مهتمًا كثيرًا بآلام جسدي. ربما لأن سجني هنا بات طويلاً. وتعبتُ من تكرار الأسئلة، التي سألتها لنفسي مرات عدة، ولكن دون إجابات تعالج أمراض الروح.
القشرة البيضاء، التي باتت تنتشر على جلدي، لم ترعبني كثيرًا. لا أدري ماذا أسميها: سفط، أم قشرة، أم فلس، ولكنها غزت كل جسمي. حتى عيناي الجاحظتان، لم تعد تخيفاني بعد الآن. بل ولا الذيل الصغير، الذي نمى، عندما التفت ساقاي على بعضهما البعض. كل ذلك لم يعد مهما، ولم يعد مخيفا، وأنا أقبع سابحًا في قارورة العطر الزجاجية، منذ زمن طويل.
أيقنت أن الخروج من القارورة محال. فبقيت طافيًا على سطح العطر. منتظرًا أن تنكسر الزجاجة.
** **
حسن الشيخ - قاص من السعودية صدر عنه العديد من الأعمال الروائية والقصصية