لم تكن المرة الأولى
كان قد حاول فتح باب السيارة حين كان يجلس في المقعد الخلفي مباشرة خلف أبيه الذي كان يتّجه بهم هو وإخوته وأبناء عمه في رحلة صباحية إلى البحر. لم يعرف لماذا فعل ما فعله وفي تلك اللحظة على وجه التحديد. كانت الأمور كلها تبدو طبيعية تماما: أمّه تصبُّ القهوة وتناول زوجها الذي التقط الفنجان بحذر حتى لا يحرق يده أثناء القيادة, أخته الكبيرة التي كانت تجلس بجانبه وهي تركّز في مرآة السيارة وتحاول أن تعيد ربط نقابها الذي ارتخى وأفسح عن عينين كالغزالة, وأخاه الأصغر الفطيم الذي كان يتنقل بخفة ودلال من حجر أمه إلى أخته ثم إلى حجر أخيه الأكبر حيث يجلس مباشرة خلف مقعد الأم. كان كل شيءٍ يسير بشكله المعتاد وكان الحديث يدور حول اقتراب موعد الدراسة, وحول يوميات الأسرة العادية وجدولها للنوم أثناء وبعد الإجازة, وحول أفضل شاطئ يمكن الذهاب إليه في هذه الرحلة شريطة ألا يكون مزدحما أو تُمنع فيه السباحة. كان الجميع يتحدّث عن كل شيء وفي أي شيء تقريبًا, وحده ظل صامتًا ورأسه يهتز ويرتطم أحيانا بزجاج النافذة حين تمر السيارة بتحويلة مفاجئة أو بمطب لم يتنبّه له والده. لم يكن يصغي لكثيرٍ مما كانوا يقولون, وكانت عيناه تتجهان بكل شرودها إلى البعيد, إلى الفجر الذي يتمدد كخيط ذهبي في الأفق, إلى أشجار النخيل المزروعة على الأرصفة بامتداد الطريق كله, إلى أعمدة الإنارة التي بدت له كضوء واحد, كشهاب ناري لفرط سرعة السيارة أو لفرط تحديقه, ربما. لم يكن يشاركهم الحديث, كان مشغولاً بعد الإشارات التي يمرون بها في نفسه, أو بالسيارات التي تمر بمحاذاتهم من الجهة المقابلة للطريق, أو بالتساؤل عن سر هذا القمر الذي لم يكن قد غاب بعد وعن تفسير منطقي يقنعه أن القمر ثابت في السماء ولا يلحق بسيارتهم في كل تجاه! لا يتذكّر المشهد الأخير الذي كان يفكر فيه قبل أن يفتح باب السيارة ويصرخ الجميع بفزع ويضغط والده بكل قوة يملكها على فرامل السيارة. لا يتذكر الفكرة الأخيرة التي جعلته يرخي أنامل أصابعه ثم يمدها بكل هدوء حتى تصل إلى مقبض باب السيارة ويفتح الباب ببلادة, بلا هدف, بلا خوف, وبلا أي تردد. كان ثابتا في مكانه حين قفزت أخته من مكانها وأمسكت به قبل أن يفتح الباب كاملاً, وكان يسمع صوت أمه وهي تنشج وتحمد الله أن السيارة كانت تمر بمطبات كثيرة ومتوالية خفف من سرعة السيارة وقتها, وظل هادئا بلا بكاء حين ترجّل والده من السيارة وفتح البابذاته ليضربه على خده وعينيه ويسميه بأسماء حيوانات كثيرة ظهرت كلها في مرايا السيارة وهي تحمل أجساد بهائم بصورة وجهه.
كان ذلك حين كان في الثامنة من عمره. وظل الحدث محط تساؤل الجميع واستغرابهم, كما ظل تساؤل نفسه هو أيضًا.
كانت العيون تتجه إليه بصمتٍ مريب وبخوفٍ فاضح وحذر.
هذه المرة أيضًا كان كل شيءٍ يبدو طبيعياً جدا. انتهت الحصة السابعة وذهب الطلاب إلى البوابة الرئيسية في انتظار أولياء أمورهم أو للتزاحم في حافلة المدرسة. كان من المفترض أن ينزل درج المدرسة وأن يختفي بجسده الصغير في زحمة الأولاد الذين يتدافعون للدور الأول. كانت تلك هي نيته كما يحدث كل يوم, وكان هذا فعلا ما كان يريد فعله قبل أن تقع عيناه على السلالم المؤدية إلى الدور الأعلى للمدرسة أو إلى سطحها المكشوف, لم يكن وقتها يعرف. خفف حركة سيره, قل تزاحم الطلبة, اختفوا جميعًا, وبقي هو وحده ساهمًا, شاردًا, وأعزلاً من أي قصد. سار ببطء شديد على الدرجات التي كانت تقود للدور للثالث. آثار حذائه تنطبع في التراب الذي غطى الدرج, حتى وصل إلى الباب المفضي إلى سطح المدرسة. وقف هناك يرقبُ المكان المغطى بالأتربة, ومطفأة الحرائق المثبتة في الجدار, وكانت أصوات الطلبة تخف تدريجيا في الأسفل حتى اختفت واختفى معها كل شيء بالكامل. كانت السلاسل التي تلتف حول الباب صدئة وبالية ومرخية, وكان يلزمها يدان جريتان فقط لتنفكّ وتسقط. وقف هناك في الهواء المكشوف ورأى السماء كأكبر ما تكون, وحين هب هواء حار شعر به كالنسيم البارد على جسده الرشِح. لم يكن قد تقدم أكثر من ثماني أو تسع خطوات, حتى وصل إلى طرف السطح الخالي من أي حواجز. صرخ الطلاب في الأسفل, اختلطت صفوفهم, اتجهت الأصابع والأصوات نحوه, وتردد اسمه في الألسنة حتى حمله الهواء مرة أخرى إليه. وقف هناك ساكنًا وذاهلاً ووحيدا, وعبرته النداءات التي تدعوه للنزول كما تعبرُ الأوراق صمت الخريف. لم تثر فيه رغبة العودة ولا رغبة الاستمرار, لم تثر فيه خوفاً ولم تحرك فيه شجاعة, لم تهززه ولم تسنده أيضاً, لم تكن تفعل شيئاً. كانت تمخر أذنه وحواسه وتملأ داخله ثم تذهب للريح. يلفحه الجو الحار, يملأ ثوبه الأبيض بالهواء فينتفخ ويبدو للأطفال كشبح معلّق في السماء. تأتي لحظة هبوب واحدة فيشعر بكل شيء حوله ولا يشعر بنفسه، ثم تلحقها لحظة هبوب أخرى فلا يشعرُ إلا بنفسه, لا يشعرُ إلا بالهبوب والأصوات التي تتصاعد للأعلى في فزع.
أراد فقط أن يعرف ماذا يوجد في الأعلى, فضوله هو ما قاده ولا شيء أكثر. لكن أحدًا لم يصدقه خاصة حين تداول الناس حكايته القديمة حين كان صغيرًا وعن باب السيارة القديم الذي فتحه.
كانت فكرة انتقاله إلى مدرسة أخرى أمرًا لا بدّ منه, عززها وبررها أن الولد بحاجة ماسّة إلى بيئة جديدة وأصدقاء جدد ووسطٍ لا يذكّره بيومِ الحادثة التي التصقت به وعيّره أولاد الحارة بها. كما أنها لن تربط انتقاله بفكرة هروب ما, فالمرحلة المتوسطة قد انتهت على كل حال ومن الطبيعي أن ينتقل بعض الطلبة من المجمّع إلى مدرسة ثانوية منفصلة أو معهد علمي. مرت الأيام خالية وسريعة ومتشابهة, يقطعها أحياناً تفكيره في المرحلة الجامعية وفي التخصص الذي سيدرسه وفي المكافأة التي سيختبر بها مقدرته على تحمّل المسؤولية. حين رفض والده أن يشتري له سيارة خاصة تسهّل مشاويره للجامعة, تفهّم هو الأمر لأنه يعرف أن أحدًا لن ينسى حكاية السيارة, باب السيارة على وجه الدقة. ولذلك ظل يرافق ولد خالته أو أحد زملائه وفي كل مرة يحرص الجميع على أن يجلسوه بين اثنين, يومؤون بها لبعضهم, يقرأها في تبادل نظراتهم, يتلقاها بصمت واستكانة, ينصاع لهذه الفكرة أمامهم ويجلس بعيدًا عن الباب.
في وقت فراغه ووحدته, ينصاع للفكرة أمام نفسه أيضًا.
يتخيّل أناسا كثيرين يتجمهرون حول السيارة التي يقودها: والده يطلب منه أن يرافقه, أمه تحلف أنها ستغضب عليه طول الدهر إن قاد السيارة وحده, الجيران الذين يتفرجون ويحوقلون ويتهامسون, وبنات الحارة اللواتي شعر أنه يسقط -بهذا المشهد- من أعينهن.
«لا أفكّر في قتل نفسي» أراد أن يصرخ بها في وجوههم, أراد أن يقولها مرة واحدة وأخيرة ثم ليذهب بعد ذلك إلى أي مكان, وإن كان إلى الجحيم نفسه. لكنه ظل صامتًا ومنصاعًا وبعيدًا, كما لو كان يراهم من خارج المشهد, كما لو كان شخصًا آخر يتأمل حياة لا تمتّ له بصلة, كما لو كان ذلك الشاب الذي لا يقود السيارة ليس أبدًا هو.
خبأ عن أمه وأبيه ما حدث آخر مرة.
لم يخبرهم عما حدث في المصعد. ما حدث كان أمرًا طبيعياً قد يحدث له أو لعشرات غيره, هل عليه أن يقنعهم كل مرة أن ما يحدث أمر طبيعي؟ هل عليه أن يبرر للآخرين أن مصعد الفندق تعطّل به وأنه -تلقائياً- ضرب بكلتا يديه على باب المصعد؟ ثم هل سيصدقونه حين يخبرهم أن العامل الذي تأكد من سلامة باب المصعد يشير إلى تكرر هذه الحادثة وأن صاحب الفندق يتكاسل في تجديد المصعد رغم شكاوي النزلاء والمستأجرين؟.
ها قد حفظ السرّ في نفسه, وها قد كمم الأسئلة التي ستلتف حوله من كل جهة, وها قد مرت الحادثة دون أن يعرف أحد. حين عاد إلى المنزل, وأمام التلفاز الذي كان يبث أفلاما وثائقية متتالية, سرح بخياله إلى البعيد. فكّر في الباب القادم الذي ينتظره, في الباب الذي سيفتحه عن غير قصد, وفي الظروف التي ستتزامن مع هذا الباب وتجعل منه حدثاً جللاً في ذاكرة الآخرين. فكّر في كل الاحتمالات التي ستواجهه, من بوابة الجامعة إلى بوابة القسم إلى باب القاعة. فكّر أيضاً في أبواب القاعات الأخرى. صحيح أن محاضراته ليست فيها, لكنه لا يعرف ما الذي قد يحدث لو دخل باب قاعة ليست له, لا يعرف ماذا يحدث خلف الأبواب. لازمه التفكير في الأمر أيامًا طوالاً, وظل حذراً أمام كل باب. كان متأهبًا لحدوث شيء لكن شيئاً لم يحدث, ومضت الأيام كبعضها, كما لم يتوقع لها أبدًا.
***
يعودُ إلى منزل أسرته الصغيرة في كل مرة, يضمّ أطفاله إلى صدره ثم يتناول معهم الغداء. ينفرد بنفسه في الغرفة إلى وقت متأخر من الليل, يستذكر سنوات الطفولة والأيام التي كان يلعب فيها كرة القدم مع أصحابه عصرًا. يستحضر عيون الناس التي كانت تسأله في كل مرة السؤال نفسه مزاحا مرة وجِدًّا مرة أخرى. يعيد السؤال إلى نفسه «لماذا فتحتُ باب السيارة؟ باب السطح؟ باب المصعد؟ أوه لا, باب المصعد كان قصة مختلفة».. يأخذه النوم دون أن يشعر. في الحُلم يرى أبواباً كثيرة, يهرب منها, لا يفتحها, يراها تلاحقه وتتكاثر عليه.. يُفتح منها باب السيارة التي كان والده يمتلكها في صغره, ويرى في الباب دما يتفجر وأشلاء تتسحب على الطريق وتلطّخ أشجار النخيل المزروعة على الرصيف, وصور حيوانات ميتة تشبهه.. يتراجع إلى الخلف حتى لا يبتلعه الباب, يسقط في باب آخر خلفه. يسقط على ظهره ويرتطم بقوة, وحين يفيق يرى الأبواب تنظر إليه من الأعلى وهي تنفتح وتنغلق من تلقاء نفسها كالنوافذ.. يحاول النهوض, لكنه لا يستطيع.. أطرافه مشلولة, وعيناه ذاهبتان في البعيد, وطفل المرحلة المتوسطة يقف على السطح, أعلى بكثير من تلك الأبواب, كان بلا رأس وكان ثوبه ينتفخ مع هبوب الريح في الظلام.
** **
- سهام عريشي