«غيّرت الزمان بدلت البرد بدفا» على الكورنيش الجديد جلست «إصلاح» تستمع إليها من جوالها .. إليسا تغني و»إصلاح» مصوبة عينيها نحو البحر تستنطقه عن أمها وإخوتها السبعة.. وعيناي مصوبتان على النخل الذي نما على الشاطئ بالقوة الجبرية.. ليس من عادة النخيل أن يحب الشطآن ، لعلهم سحلوها من المزارع إلى الشاطئ .. كم هي فارعة الطول هادر سعفها، يتساقط كالشلال فوق رأسها .
عندما تقدم لي بابطين .. دفع لي مهرًا كبيرًا، فقد كنت زوجته الثالثة بعد موت الأولى والثانية التي انتقل إليها مرضه، ولم يعلم بذلك أحد سوى أنا وأخي «عبدالرازق» . كنت فتاة في السادسة عشرة ، فارعة كنخلة، بيضاء البشرة، فاحمة الشعر ، أحب الغناء كثيرًا، وأرسم على الحيطان.
لم يمضِ عامان حتى انتقل إليّ مرض بابطين الذي أبقيته سراً حتى عن عبدالرازق ، ومات بابطين ذلك الرجل المارد الذي تحسدنني عليه النساء، ويتخيلن صهيله في الليل على فراشي ، ولا يتخيلن تأوهاته المكتومة بالليل وأنا أنظف له دمامله وخراجاته . بابطين رجل نبيل؛ فقد كافأني بنهاية خدمتي له عندما منحني ملكية بيته قبل موته فلم تقاسمنني فيه بناته الوريثات. كنت قد بلغت العشرين عندما فاتحني عبدالرازق بأمر صديقه الشيخ عزيز ، رجل أنيق، ابتسامته لم تفارق وجهه عندما رآني أول مرة ألعب مع أولاده في بيت عبدالرازق ، شعره نوافير فضة، وهذا ما أعجبني فيه فهو قد تجاوز الستين بخمسة أعوام ..
لديه مشكلة بسيطة ، فهو لا ينجب .
«عبدالرازق» لم يرَ المشكلة من زاويتي ، بل إنه لم يرني أصلاً .
اعتدت على ذلك .. النخيل لا تسأل أين يرتحلون بها، ولا تكف عن سكب الظل على الأرض ولا عن أرجحة سعفاتها حتى وهي عاقر ، لا مشكلة .. أريد فقط أن أطمئن إلى صهيله في الليل ، فقد كرهت الأنين ، والحشرجات، والخيبات. عزيز ليس في ضخامة بابطين، ولكنه يعرف كيف يراوغ الشهوة، ويزرعها في جسدي لأنسى أن النخيل على البحار لا تحبل .. ومات «عزيز» بهدوء وكأننا أنا وهو خُلقنا كأشجار الزينة.
ما زالت «إصلاح» متكئة على كوعيها ومستلقية على بطنها ، مستسلمة للريح الخفيفة الباردة ، لتعبث بشعرها الغزير، فبدأ يتطاير وبدت فسيلة تقاوم يد الريح .. عندما وضعها «عبدالرازق» بلفائفها في حجري ولم يمض على ولادتها سوى أيام، قال لي إن أمها تعبت من تربية الصبيان ، وإن تربية أنثى بين الذكور ليس جيدًا لطفلة فقد تنقلب إلى ذكر في هيئة أنثى! حملتها بين يدي، وأدنيتها من صدري الذي لم ينز حليبًا يومًا؛ فشعرت بتدفق الحليب فيه .. أشرق وجهها الصغير بابتسامة طفلة وجدت النوم والأمان والرزق الوفير، فقد كنت ثرية جدًّا .
لم يخبرني «عبدالرازق» أن «نهاية» ليست سوى رشوة لكي أقبل الزواج من صاحبه. ولم يهمني أن أعرف فقد عرفت من حجم الرشوة .
-اسمها «نهاية» ..
-لا أحب هذا الاسم .. نبتة الخزامى الصغيرة في حياتي ستكون بداية وليس نهاية .. سمها «صلاح» .
- «صلاح» اسم لولد .
- إذن سمها «إصلاح»
- انتهينا من الاسم لن نستطيع تغييره فهو مسجل في الدائرة الحكومية.
- لن أناديها «نهاية» ستكون «إصلاح» .
- نادها ما شئت ولكن في البطاقة اسمها «نهاية» .
- عندما بلغت السادسة سجلها «عبدالرازق» في مدرسة الحي القريب حتى لا تحتاج إلى سائق، وكنت أصحبها يوميًّا إلى المدرسة، وأرجع ظهرًا لاستلامها .. في الأسبوع الأول جاءتني بكتب ودفاتر، واستلقت على بطنها كما تحب أن تفعل دائمًا، وقلبت كتبها من الخلف، وبدأت في نسخ اسمها على الدفتر «نهاية عبدالرازق» .. واقتنعت بعد دمعتين ساخنتين أن اسمها في البطاقة هو «نهاية»، وأنني أناديها بإصلاح .
= نسيت مع هواء بحر ينبع الربيعي الساحر آلام ركبتي والصداع الذي يصيبني كلما نسيت تناول حبات الضغط . عدلت «إصلاح» جلستها، وأخرجت الغراء من حقيبتها، وشرعت تسكب الصمغ ببطء في فتحات حذائي الطبي الذي تخلى عن صلابته من رطوبة بحر ينبع ..
- لا داعي لإصلاحه؛ سوف أشتري حذاء جديدًا عند عودتنا
- يا ماما الحذاء طيب وجلده أصلي، يحتاج لإصلاح فقط ..
نهضت من مكانها تجري لتعلن عن انتصارها في إصلاح خراب جديد ؛ فهي لا تقبل بالخراب ولا الكسر ولا الإعطال في حياتي، تقضي وقتها هادئة ومستكينة ومستمتعة بما تعيد إليه الحياة من أشياء معطوبة ، فلديها القدرة على إعادة الحياة إلى كل شيء معطل ، فهي تستبدل لمبات الصالة المحروقة ، تبدل يد الشطاف المكسورة في حمام الخادمة ، تصلح أيادي الطناجر بالمفكات ، تخيط شقوق ثيابي وتستبدل الزراير الضائعة في عباءاتي.
رن جرس الباب عدة مرات سريعة وخاطفة، ودخلت جارتي أم صويلح قبل أن تلقي السلام، وبكت ثم انتحبت ثم تحشرج صوتها قبل أن تلقي بالخبر .. كنا قد عدنا من «ضبا» بالسيارة مع «عبدالرازق» بعد أن ودعت «نهاية» أمها وإخوتها السبعة وهم يركبون العبارة لقضاء عطلة الصيف .. للمرة الأخيرة طرحت السؤال على «نهاية « وفي يدي جواز سفرها مختوما بموافقة أبيها وبعض النقود وحقيبة سفر ..
- هل ترغبين في قضاء إجازة الصيف مع إخوتك في القاهرة ؟ لا أشك في أنك ستكونين سعيدة
- هل ستأتي معي يا ماما .
النخيل لا يطيق الترحال ولا تغيير الأماكن .. فقد يصاب بالعقم.
- لا حبيبتي .
- إذن أبقى معك . «نهاية» لن تبرح المدينة إلا معك .
أول مرة أسمعها تنطق باسمها أمامي .. لوحت بيدها للعبّارة وقفزت كقطة وهي تحاول ألا يطير خمارها برتقالي اللون خلفهم . ورحلوا ثمانيتهم وابتلعتهم حيتان البحر ولم يعودوا إلى «ضبا» ولا إلى «ينبع» أبدًا.
دنت شمس ينبع على المغيب، ولاحت سيارة عبدالرازق قادمة من الشارع الجميل المزدان بالزهور وأشجار النخيل العاقر . كان راجعا من العمل ليحملنا إلى بيته .
** **
- وفاء الطيب