عندما يحضر دعشوش العرضة تجمح خيول الراقصين، ولا يغدو المساء هو المساء الذي نعرف، المساء الذي اعتدناه متكئاً على سواعد الجبال البعيدة منذ الأزل.. وتعود أرواح الأسلاف تستعير منا أجساد الطين، ونتوحد كلنا في طقس مجنون.
ولا يكتمل الرقص حتى يصل دعشوش..
دعشوش يأتي متوجاً بـ«عصابة» من الشيح والبعيثران.. يأتي ولا يدخل حلبة الرقص حين وصوله، يقف قريباً من قارع الزير الأكبر.. يقبض بكلتا يديه على عصاه الطويلة.. ويدقق في وجوه الراقصين بعينين من لهب.
يقف كأنه يتشرب حمى الرقص.. كأنه يعب الجنون المتفلت.. لا يقبل أن يدعوه أحد.. أن يدفعه أحد.. الكل يعرف ذلك.. وما عادوا يفعلون.
وعندما يثمل دعشوش من روائح الأجساد المحمومة من الغبار الناهد للسماء ترتجف يداه؛ فلا تعودان قادرتَين على مسك عصاه الطويلة.. ولا تجد قدماه في التراب الأمان، حينها يستعير قميصاً من الريح وينطلق وحده.. ويهتف كل الحضور بصوت واحد.. بصوت من ينتظر هذه اللحظة:
ــ دعشوووووووووووووووش.
يدور دعشوش ساحة العرض.. يدور مرة.. مرتين أو ثلاثاً قبل أن يدخل صف العرضة.. ينظم إيقاع الراقصين.. يرتل وقع أقدامهم الحافية.. يبعد الصغار ومن يكسرون رتابة الخطى.. ثم يتقدم الكل.. غرباً باتجاه قارعي الطبول.
ويغدو لصف العرضة صلابة الوتر المشدود.. ويغدو لهزيم الرجال صوت تكسر الأشواق.
وتغدو الخطى أبطأ كلما اقتربوا من قارعي الطبول والأقدام تضرب صدر الأرض بوجع أكبر.. تعلو أكثر.. ويتمتم الرجال بفحيح مكتوم.. فحيح القادمين من سفر ولم يصلوا بعد.
وعندما يصلون يتحلقون حولهم كخاتم، ويغدون كتلة واحدة قبل أن تنكسر وينتثر الرجال مرة أخرى نحو الشرق.. نحو بناء جدار آخر من الصدور والأقدام الحافية.. والناس كل الناس تهتف:
ــ دعشووووووووووووووش.
ومن جديد يتشكل صف الرجال المسلحين بالجنابي وعصي الخيزران ودعشوش يستثير حماس الرجال بانتظار عاصفة «غطاريف» تشتعل من غيب ما.. غيب قد يأتي ولا يأتي.
عند الغروب تُستنفد همم الرجال.. يعودون إلى منازلهم بانتظار الليل.. بانتظار رقصات السيف والعزاوي.. والليل الليل.. ودعشوش أيضًا يعود.
وفي الليل طقوس أخرى للرقص، لليل شياطين غير شياطين النهار، شياطين الليل معجونة من لهب الأرواح الضائعة، الأرواح التي استعجلها الرحيل وأخلف.. وبقيت حائرة هنا.. شياطين الليل لا تختبئ تخالط تغدو جزءاً منا، ويكون الليل هو الليل.
وفي الليل أيضًا يلعلع الرصاص والـ»غطاريف» التي ما عادت تختبئ.. ويحضر دعشوش قبضًا من ضوء أسود.. ضوء يلغي وحشة المساء.
وفي الليل تضيق دائرة الرقص فقط «السيف» و»العزاوي».. رقصة السيف نزال بين روحين، والليل كل الليل مسرح لأقدام تثقب صدر الأرض..
لكن «العزاوي» ليس رقصاً ولا حواراً بين ندين.. هو أكثر من يحرر الجسد من عذابات مؤجلة.. العزاوي قربان الروح لهذا الليل.
دعشوش لا يجد نفسه كثيرًا في رقصة السيف.. يشعر أن هناك من يقف له نداً ويناور مثله.. ودعشوش يرى أنه وحده الموكل بتقديم هذا القربان.
ويصرخ الراقصون مرة أخرى ــ: دعشوووووووووووووووش.
وتخلو الساحة إلا من قارعي الطبول، وينسرب من بين الجميع دعشوش، ويشتعل ليل من غوايات كانت ولم تعد.
تصمت الطبول عدا الطبل الكبير.. ويبدأ دعشوش العزاوي.. يبدأ بطيئاً.. كأنه متعب.. كأنه جاء يوقع ويمضي.
وشيئاً فشيئاً يدخل طقس الجسد.. يقترب منه قارع الزير.. يدور حوله.. يدوزن ضربات الجلد المشدود ودعشوش يتفلت.. يتبدل.. تتغير ملامحه.. يغدو كائناً من ضوء وصخب.. ويخيم على الحضور صمت الترقب وصوت الليل المثقوب بصدى الزير الموجوع.
دعشوش يبتعد.. يقترب.. يسرع يبطئ.. ثم يقفز ويقفز ويقفز، يطعن الفراغ بخنجره الجارح. ويبطئ ضارب الزير كأنه يلجمه.. كأنه يعيده لروحه التي تكاد تخرج.. لا أحد يعيد دعشوش غير ضارب الزير يعرف كيف يفعل.
يرقص دعشوش طويلاً، تُستنفد روحه.. يخرج الزبد من فمه.. يتطوع الحضور لتهدئته.. لسحبه بعيداً عن ساحة النزال.. وبالكاد ينتزعون الخنجر من قبضته ويصمت الحضور.. ويعرفون أن حمى الرقص انطفأت.. ولن تشتعل حتى ولو صرخ الكل:
- دعشووووووش.
** **
- عمرو العامري