بأقل متابعة للمشهد الثقافي، يظهر ما أحدثته الرواية في السنوات الماضية من سيطرة وربما تحكّم! فتبعها كثير من الدراسات النقدية الأكاديمية والمقالات الصحفية، بوصفها رد فعل لهذه الحركة الإبداعية.
وبعيدا عن السؤال الجدلي، لنعود إليه لاحقا: من يقود الآخر الإبداع أو النقد؟ نفتش في ظلال السؤال برؤية أخرى. هي أن الرواية مع علو موجتها، نجد شعلة لم تخفت أو تتضاءل كما يُظن، هي القصة القصيرة.
إن المتتبع لنتاج المبدعين في هذا الجنس الأدبي، يجده تقريبا لم يتوقف أو يتأثر منسحبا تحت وطأة الرواية واستسلام النقد لها، خاصة النقد الأكاديمي، الذي بدأ يعاني من سمنة مفرطة غلب عليه الكم أكثر من النوع.
وهنا، تأتي مُحرِّضاتٌ تدفع نحو سؤال منطقي: هل تأثَّرت القصة القصيرة فنيا بموجة التأليف الروائي؟ في الواقع هو سؤال كبير قد تعجز إجابتي عنه؛ حيث إنه يمثل أطروحة علمية بحد ذاته.
وإذا من إضاءة لفتت نظري في هذا الجانب، هي أن مستوى القصة القصيرة فنيا لم يتطور كثيرا قياسا بالرواية. وفي ظني أن السبب؛ هو هجرة الكُتَّاب المجيدين إلى جنس الرواية، تاركين القصة القصيرة لمن بدأ يتلمس طريقه إلى الكتابة الإبداعية؛ إذ القصة القصيرة بوابة أولى عند أغلبهم قبل خوض التجربة الروائية، ووقتئذ من المألوف لمبدع مبتدئ أن يكتب بطريقة كلاسيكية؛ تأثرا بما أمامه من نتاج وقياسا عليه.
وإضافةً إلى ذلك، أن الروائيين لم يعودوا إلى بوابتهم الأولى/القصة القصيرة بإصدار جديد؛ لتطوير مستواها الفني بما اكتسبوه من خبرة في رحلتهم الروائية. ولو فعلوا، لانقطعت إلى حد ما سلسلة اختراع العجلة من الكُتَّاب الجدد؛ إذ سيتعرفون على أعمال تختلف عن مرحلة البدايات الغارقة في الكلاسيكية، فينشأ مسار فني جديد لكتابة القصة. وعودة للنقد الأكاديمي، فإنه وإن واكب شيئا من الحركة السردية التي تزعمتها الرواية، إلا أنه يحاول جاهدا الخروج من ربقتها ولا ينجح؛ لأثر الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وتأثيرهما القوي في توجيه الباحثين أثناء اختياراتهم للدرس النقدي.
وهنا يتراجع النقد الأكاديمي إلى رتبة تبعية الإبداع. وعليه وجب قسمته تبعا لفاعليه إلى مستويين هما: مستوى الدارسين المبتدئين، ومستوى النقاد المتمرسين خاصة أن كثيرا منهم يعمل أستاذا جامعيا. وحينئذ يقع اللوم أكثر على الأخير؛ لتفريطه بالاستسلام للأول.
وأخيرا، إذا كانت دراسات الأدب المقارن تحتفي كثيرا ببحث نقاط التقاطع بين أدبين من ثقافتين مختلفتين، فإنه بمثل هذه النظرة يحتاج الأدب الواحد دراسة أجناسه المختلفة. ولعل فكرة دراسة «هجرة الأساليب الفنية» بين القصة القصيرة والرواية والمقالة والسيرة الذاتية، تستنهض أحدا لبحثها والكتابة فيها، عوضا عن موضوعات ما عادت تُقَدِّم للمكتبة النقدية سوى مزيد من الورق.
** **
- د . محمد المشهوري
ALMASHHORUI@