يشكّل اللون علامة مهمة من علامات النص الأدبي يحسُن بالباحث الوقوف عندها وتأمل إشاراتها لاستبطان رسائلها، وفكّ شفراتها، ومحاورة دلالاتها؛ فاللون يكتنز تحته بحرًا عميقًا من التاريخ الدلالي الذي تكوّن من خلال تراكمات معرفية، وخبرات سياقية، واختيارات شخصية.
وإنّ الألوان -وإنْ يكن لها دلالاتها المعروفة والشائعة- فإنّ لفظ اللون حين يحضر في نصّ ما -وبخاصة إذا كان نصًّا أدبيًّا- فإنه يكتسب دلالات إضافية، ويتلون بمعان فرعية تتفرع على أصل الدلالة الشائع.
وقد تتبّع الباحث الألوان في مواضعها من نصوص مجموعة (هاتف) في محاولة لمقاربة دلالاتها.
ابتداء من قصة افتتاح المجموعة -قصة (رمادية!!)- يحضر اللون في العنوان ويهيمن على القصة بتمامها؛ فإذا بالقصة قصة ألوان!
(رمادية!!) هو عنوان القصة، والعنوان هنا كلمة واحدة هي خبر عن مبتدأ محذوف. وحضورُ الخبر وغيابُ المبتدأ يفتح الآفاق لتقدير الغائب وتوقع المحذوف؛ فما (الرمادية)؟ هل هي الحياة كلها؟ ربما.
وشخصية القصة الرئيسة هي الإشارة الضوئية (إشارة المرور)، والإشارة الضوئية في هذه القصة تفعل وتحسّ وتشعر وتريد وتعبّر؛ فهي قد أُنسِنت وشُخّصت؛ فنطقت وعبّرت.
وطريقة تعبيرها وتفاعلها مع الشخصيات من حولها إنما كانت عن طريق لغة الألوان!
والألوان هنا لغة إشارية باذخة الحضور قوية التأثير.
إن هذه اللغة الإشارية اللونية قد منحت الإشارة الضوئية شخصيتها، ووهبتها الحياة. بل إنها جعلتها تتحكّم في أحداث القصة وفي حركات الشخصيات من حولها؛ و»تنظم سير الناس والعربات والأحلام» (هاتف: ص9)، فهاهنا تتجاوز الإشارة بتحكّمها الشخصيات الحيّة (الناس) إلى الشخصيات الجامدة (العربات)، بل وتتجاوز العالم المرئي إلى عالم الحلم؛ فهي تتحكّم حتى في الأحلام!
وإذا كانت الإشارة تتحكم في الآخرين من خلال ألوانها فإن هنالك أيضًا تحكمًا داخليًّا داخل حقل الألوان في الإشارة ذاتها؛ «فقد كان الذي يتحكم فيها هو اللون الأحمر ثم الأصفر ثم الأخضر»، ويؤكد النص علوّ اللون الأحمر؛ فاللون الأحمر «هو الأعلى» (ص9)، ولكن كل تلك الألوان لا تملك شيئًا إزاء اللون الأخير الذي تؤول إليه جميع تلك الألوان وهو اللون الرمادي «رمادي بلا ملامح»! (ص10)، وكما يفتَتَح النص بهذا اللون الرمادي منذ العنوان فبه أيضًا يختتم!
وأما علاقة تلك الإشارة ذات الألوان بالناس فهي علاقة إيقاف وإحباط، وليس عبثًا أن القصة بدأت بهذه الجملة: «وقفتُ أمام الإشارة الضوئية» (ص9)، وأول كلمة «وقفتُ» إحالة إلى الوقوف وانقطاع السير، وربما انقطاع الأحلام وتعثر الآمال! وجاء هذا الفعل في صيغة الماضي؛ وفي ذلك الإشارةُ إلى الجمود فهو توقف محاط بالجمود.
ولئن كان من المعلوم أن الإشارة الضوئية تنظم السير وتحدّ من المخالفات فإن هذه الإشارة «ترتكب المخالفات دون أن يلحظها أحد»! (ص9)، وعلى الرغم من جمود هذه الإشارة ونقص قدراتها ومحدودية الحركة لديها أو انعدامها حيث «لا تستطيع الالتفات يمنة ويسرة، فهي واقفة على ساق واحدة» (ص9)، فإنها مع ذلك قد استطاعت أن ترتكب المخالفات وتعرقل الأحلام وتثبط الآمال!
وإذا حاولنا تأمل العلاقات بين (الفواعل) في هذه القصة فنجد العلاقة بين الجماد والإنسان تنقلب على المألوف وتخرج عن المعروف؛ فمن المعلوم أن الإنسان يفعل في الجماد؛ فالإنسان فاعل والجماد مفعول به، ولكن في هذه القصة يكون الجماد (الإشارة الضوئية) فاعلًا، والإنسان (السائقون والعابرون) مفعولًا به. ووسيلة هذا الجماد إلى الفعل هي الألوان؛ فهي التي منحته السطوة والقوة والسلطة.
وهاهنا مفارقة لافتة، فهذه الإشارة الضوئية على الرغم من جمودها وانعدام قدرتها على الحركة فإنها تستطيع التحكم في الأحياء القادرين وإيقاف حركتهم؛ فكم من ضعيف القدرات منتقص الهمة لكنه يستطيع أن يكون معرقلًا للآخرين مثبّطًا لهم مقصيًا لآمالهم.
ويسيطر على المقطع الأول من هذه القصة -من قوله: «وقفتُ أمام الإشارة الضوئية...» حتى قوله: «فلم ألحظ شيئًا ذا قيمة» (ص9)- (الوقوف)، فهو وقوف أمام الإشارة الضوئية امتثالًا للونها الأحمر.
وأثناء هذا الوقوف الإجباري أجبرت الإشارة الواقف عندها على التأمل والفحص والموازنة (المقارنة): «لاحظت شيئًا غريبًا يحدث، لم أجده في كل إشارات المرور في المدينة التي أقطنها. وقد راودني شك، هذا الشك أفضى بي إلى اختيار مئات الإشارات الضوئية فلم ألحظ شيئًا ذا قيمة» (ص9).
فهاهنا ثنائية (العادة والاستثناء): اعتاد الراوي شيئًا ما في السابق لكن الأمر اختلف هذه المرة! فما الذي اختلف؟ ذلك ما يكشف عنه المقطع الآخر من القصة.
في المقطع الآخر يركز النص على كيمياء الألوان، وعلاقتها بالناس وتأثيرها فيهم.
اللون الأحمر «هو الأعلى»، وهو الذي يمارس سطوته «على مدى طويل» (ص9)، وللأحمر في هذا السياق دلالته على الشدة والتحذير، ثم بعد ذلك يأتي دور البرتقالي الذي «يربك السائقين» (ص10)، ولكن بعد هذا اللون البرتقالي يأتي «اللون الأخضر الذي يسكن تحته متباهيًا بفرح الناس وعبورهم» (ص10). ولكن هل هذه الفرحة فرحة حقيقية؟ وهل ما وعد به اللون الأخضر من الفرح وتحقق الأحلام حقيقي؟
تأتي خاتمة القصة، وفيها تتنزّل المعاني الأخيرة، وتتمحّض الرسالة؛ فهذا اللون الأخضر -على الرغم من أنه منح الفرح وأَذِن بالعبور- فإن المفاجأة أنه يؤول إلى أن يكون لونًا مربكًا كذلك فقد «نظر إلى ملامح الناس الذين منحهم الفرح والعبور، فإذا به لون مربك»! (ص10).
ولئن كانت الألوان في هذه القصة تنطق وتفعل فإننا نجدها صامتة في قصة أخرى، وقد جاءت تلك القصة بعنوان (صمت الألوان).
وفي هذا العنوان مخاتلة! ولئن كانت العناوين مفاتيح لقراءة النص فهذا النص مفتاح أيضًا ولكن لباب آخر، فهو يخاتل القارئ ويمتحنه؛ فالصمت هنا ليس صمتًا بل هو نطق، بل إنه نطق من حيث هو صمت! فكيف كان ذلك؟
إن الراوي في هذا النص له خصوصية وتفرّد عن غيره من سائر الناس فهو أصمّ لا يسمع شيئًا منذ ولادته، ولكنه اهتدى إلى طريقة للتواصل مع الآخرين واستبطان دواخلهم، ولكن ليس بالطريقة التقليدية طريقة الإشارات وحركات اليدين والشفتين -كما هو المعتاد- بل بطريقة أخرى فريدة، إنها طريقة الألوان! «حين أتابع شفاههم أحس بما تقول ليست تعابير الوجه، ولا العيون، ولا أصابع اليدين، كان هناك مجموعة من الأصوات تتراءى لي بألوان متعددة» (ص15).
ولئن استطاع المخاتلون والمخادعون والكاذبون أن يغرّوا الآخرين ببهرج كلماتهم ومعسول ألفاظهم، فهم لم يستطيعوا مخاتلة الراوي الأصمّ ولا الكذب عليه؛ لأنه لا يسمع كلماتهم الكاذبة، بل ينفذ إلى بواطنهم، ويتسلّل إلى دواخلهم من خلال ألوان تتلون بها أصواتهم وحركات أجسادهم!
وفي نهاية القصة بلغ الراوي مرحلة عجيبة، «وصلت إلى مرحلة عجيبة، أصبحت أسمع الألوان، كثافتها، خفتها، الجرأة التي يملكها لون بذاته»! (ص16)، وهو هنا يبلغ مرحلة (تراسل الحواسّ)، فالألوان المشاهدة صارت أصواتًا مسموعة بالنسبة إليه، بل إنه صار يدرك التفاوت في تلك الألوان/الأصوات في كثافتها وخفتها، وجرأتها وتردّدها!
وأما النتيجة النهائية التي يصل إليها النص فهي (الرمادية) التي تختزل كل شيء ولا تتضمن أيّ شيء! (إنها رمادية مرة أخرى).
«اللون الرمادي ملك الألوان، حيث يختبئ الصدق والعفوية والكذب، والعهر والطهر وهو المتهم الوحيد» (ص16).
فاللون الرمادي يخبئ تحته كل هذه المعاني المتناقضة المتضادّة صدقًا وكذبًا، عهرًا وطهرًا!
إذَن فالرمادي هو الملك في زمن يجمع المتناقضات، ويسوي بين المتضادّات!
وعودًا على عنوان النص (صمت الألوان) يعود الراوي ليؤكد أن في هذا النص كل النطق وكل المعاني الحقيقية: «سمعت كل شيء دون أن أسمع ودون أن أتحدث»! ص(16)
وهذه القصة بتمامها تنتظم تحت ثنائية عريضة، إنها ثنائية (التحدي والتجاوز)؛ حيث كان الراوي في تحدّ مع إعاقته السمعية ولكنه تجاوزها بامتياز، بل صار يفهم خيرًا مما يفهمه الآخرون السامعون!
وفي هذا النص برنامجان سرديان: (الانفصال) في المقطع الأول: الانفصال عمّن حوله من الأحياء الناطقين، و(الاتصال) في المقطع الآخر، لكنه اتصال مميز يختلف عن كل اتصال؛ فهو اتصال يمكّن الراوي من أن ينفذ إلى بواطن الذين يتعامل معهم، وأن يستبطن دواخلهم.
وأما القصة الثالثة التي يحضر فيها اللون بشكل رئيس في هذه المجموعة فهي قصة (جدار)، وهي قصة ألوان بامتياز؛ ففيها تنطق الألوان، تتجاور بصمت ناطق، وتتحاور بنطق مبين!
(أبيض وأسود) يتجاوران ويجتمعان ويأتلفان في هذه القصة. وعلى أن من المفترض أن الأسود نقيض الأبيض، وأن الأبيض نقيض الأسود، وأن الحياة «يا أسود يا أبيض» (ص89 )-كما يؤكد الراوي- «ولكنهما ولله الحمد اجتمعا دون تناقض، أو قل بعبارة أخرى اعتدنا على أن يكون الأسود والأبيض معًا دون تناقض»! (ص89) وكأن الراوي هنا ينبهنا إلى أن حياتنا تسيطر عليها تناقضات بيّنة، ولكن اعتيادنا لها جعلها مألوفة؛ حتى ألفنا التناقضات ولم نستنكر انعكاس الموازين!
يحضر اللونان الأبيض والأسود ليشكلا صورة الراوي في اللوحة الجدارية التي علقتها ابنته، «حين وضعت ابنتي صورتي بالأبيض والأسود على الجدار الرمادي كانت مائلة بعض الشيء» (ص89).
ويحضر هنا اللون الرمادي من جديد مشكّلًا للجدار ومحيطًا بالصورة واللوحة وبالشخصيات.
وقد حاول الراوي في حواره مع مَن حوله البحث عن شكل من أشكال الانسجام بين لونَي الصورة (الأبيض والأسود) ولونِ الجدار (الرمادي)، وحاول أن يسوّغ ذلك بأن لون الجدار «إنما هو مزيج من الأسود والأبيض والذي مكن لتزاوج هذين اللونين أن يفرز اللون الرمادي» (ص89).
ولئن كان بين الأسود والأبيض والرمادي علاقة من وجه أو آخر فإن لونًا رابعًا بعيدًا عن هذه الألوان في ظاهره يدخل حلبة السرد ويحيط بصورة الراوي، وذلك هو اللون الذهبي (لون الإطار للصورة)، وهذا اللون الذهبي –وإن يكن بعيدًا في ظاهره- فهو في الحقيقة ينسجم مع مكوّن من مكوّنات الصورة، إنها البسمة المصطنعة التي كان الراوي قد حاول أن يرسمها على شفتيه عند تصويره (ص90). وقد خشي الراوي أن يكون في هذا اللون الذهبي ما يعكّر التسوية التي أكدها بين الجدار الرمادي والصورة ذات الأبيض والأسود، ولكنه عاد لاحقًا ليؤكد أن شيئًا ما يربط بين كل تلك الألوان، وذلك لأن اللون الذهبي «يمنح النفس قيمة من الثراء الوهمي» (ص90). فهذا الثراء الوهمي يناسب الابتسامة المصطنعة التي علقها الراوي على شفتيه، وكل ذلك يتلاءم مع اللون الرمادي المخادع الذي يضمّ تحت جناحه المتناقضات، ومن بين تلك المتناقضات الأسود والأبيض!
وأخيرًا بعد هذا التجاذب بين الألوان المختلفة المكوّنة لهذه الصورة والمحيطة بها (الأبيض والأسود، والرمادي، والذهبي) تكون الغلبة للون الرمادي، ويعود ليتسيّد الموقف، وبه يختم المشهد، وتغلق الصورة: «ابنتي الصغيرة قالت لي.. بابا هل هذه صورة والدك؟
لم أقل شيئًا وقال اللون الرمادي كل شيء»! (ص90)
في قصة (هاتف) –التي سمّيت بها المجموعة- يفتح الستار على الراوي وهو واقف أمام الإشارة الحمراء، ثم نراه إلى جوار بيت في مدينة (أبها) كان يحيط به صخب الحياة في الماضي الجميل، ولكن «دققتُ النظر فإذا بنوافذ البيت قد فقدت ألوانها المبهجة آنذاك، وإذا بها مغلقة إلى الأبد» (ص47)، وبعد أن كانت الفسحة الممتدة أمام البيت تتزين بالسجاد والمساند «لتصبح تلك الفسحة مجلسًا مفتوحًا على الشارع الذي لا تهدأ حركته»، فإذا بالراوي يرينا «أوراق الأشجار المتساقطة تغطي مجلس العصرية بديلًا عن السجاد والمساند» (ص47).
وفي هذا النص عدة ثنائيات:
الماضي/ يقابله الحاضر.
الألوان البهيجة في الماضي/ يقابلها حاضر بلا ألوان!
الفتح في الماضي/ يقابله الغلق في الحاضر!
الحيوية والنشاط في الماضي/ مقابل الجمود والهمود في الحاضر!
عمران المكان بالجالسين والمتحدثين في الماضي/ مقابل الأوراق المتساقطة في الحاضر!
وفي (مستوى الخطاب) نجد التنقل بين الزمن الماضي والزمن الحاضر؛ وذلك من خلال تنقلات سردية سريعة، ترتدّ إلى الماضي البهيج ذي الألوان المبهجة والحياة المفعمة، ثم تعود إلى الحاضر الكئيب الذي فقد ألوانه، وأغلق أبوابه!
ماض بهيج يجمع الرفاق، ويفتح (المجلس) أمام العابرين، وحاضرٌ كئيب يغلق الأبواب ويساقط أوراق الأشجار مؤذنًا بأن الربيع قد ولّى وأن الخريف قد بدا.
وإذا لم يعد من بدّ، وحيث إن الحياة قد فقدت بهجتها؛ فليتجه إلى هناك، إلى المقبرة: «ها أنا وبكل قصد أسير كالمذهول نحوها، حينما قاربت أسوارها، وجدت الباب العريض... مقفلاً ولون الحديد يقول.. قف»! (ص48) وهاهنا يحضر اللون مرة أخرى لكنه لون الحديد، لون ينطق ويعبر ويقول «قف»!
وتدور القصة في دائرة مغلقة تبتدئ من الوقوف الذاهل أمام الإشارة الحمراء، وتنتهي بالوقوف المذهول أمام باب المقبرة المقفل ذي اللون الحديدي!
وفي قصة (محاولة فاشلة للهروب) نجد ثنائية اللونين الأصفر والأزرق. أما الأصفر فلون رمال الصحراء (ص37)، وهذه الرمال الصفراء المتحركة (طاردة) لمن يعبرها حيث إنها «تدفعك إلى البحر، حيث الزرقة الأخاذة تهدئ الروع تبلل هذا الجفاف الذي خلفته الصحراء» (ص37). فالرمال الصفراء طاردة، وأما زرقة البحر فجاذبة أخّاذة، والرمال الصفراء تُجدِب الروح وتبعث الجفاف، وأما زرقة البحر فهي تهدّئ الروح وتبلل الجفاف. وهذه الصحراء (الصفراء) كما هي (طاردة) فهي كذلك (محاصِرة) تحاصر الطريق الذي يمتد خلالها: «كانت الصحراء تحاصر هذا النفط القاسي هذا الثعبان الذي لا يملك رأسًا» (ص37).
وكما تشعره صفرة الصحراء بالجفاف والجدب فهي أيضًا تشعره بالوحدة، «قلت لكم كنت وحيدًا، أو بالأصح قررت أن أكون وحيدًا» (ص38). وأما البحر بزرقته فهو يشعره بالألفة والمجموع برغم الوحدة؛ «كان البحر يحيط بي من كل جانب، يداهمني الشعور الغريب وأحس أنني في غرفتي هذه أمسك بالبحر وأدخله إلى قلبي» (ص39). إِذَن هما ثنائية الصفرة والزرقة/ الصحراء والبحر/ الوحدة والألفة..
وأما قصة (الحصار) فتبدأ باللون الأخضر وبه تنتهي في دائرة سردية مغلقة. ويلوّن هذا اللون الأخضر سبيلًا من سبل الكتابة لا يتركه الراوي حتى يوضح ما الذي يدل عليه هذا اللون وما الذي يبعث عليه: «كان ذلك السبيل فوق الورقة أخضر اللون يغري بالكتابة المستقيمة» (ص69)؛ فهذا اللون الأخضر يغري بكتابة مستقيمة، وهي كتابة ذات بوح وانثيال كما يؤكد الراوي في مفتتح المقطع الآخر من القصة: «كان ذلك السبيل الأخضر فوق الورقة ممرًّا إلى عالم البوح والشكوى» (ص69).
وفي نهاية القصة يعود الراوي ليؤكد أن هذا السبيل هو الملجأ، وأنه أخضر نقيّ: «لم أجد مهربًا فكان السبيل ملجأً. وكان السبيل يميل إلى اللون الأخضر ويغري بالكتابة المستقيمة» (ص70). فالكتابة تحاصره، ولا ملجأ من الكتابة إلا إليها!
ومن الملحوظات العامة حول ألوان «هاتف» علوان:
أن الألوان (الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والذهبي) كان حضورها خافتًا وخاطفًا ومؤوّلًا بغير البهجة والزهو؛ فـ(الأحمر) ورد لونًا للإشارة الضوئية مرتين وفيه في هذا السياق معنى الإيقاف والحبس.
و(الأصفر) ورد لونًا لرمال الصحراء تأكيدًا لكآبتها، وورد لونًا مربِكًا في الإشارة الضوئية، وورد لونًا لمنديل الزوجة إذ تعصب به رأسها لتخفيف الصداع.
و(البرتقالي) جاء لونًا في الإشارة الضوئية يربك السائقين ويجعلهم متوترين.
و(الذهبي) جاء لونًا للنفاق والإيهام الكاذب.
ويحضر (الأبيض) لونًا للملابس، وبخاصة الثوب، وغطاء الرأس (الغترة).
وأما (الأخضر) فقد جاء علامة على الخصب والرّواء، وانثيال الحكي.
وجاء (الأزرق) في مرة واحدة لونًا للبحر الذي يبعث الأنس والراحة.
وأما (الألوان المبهجة) فقد جاءت (مسلوبة) حيث جاءت في سياق افتقاد تلك الألوان المبهجة؛ فقد رحلت مع مَن رحل مِن الأوّلين!
ويبقى الحضور الأكثر للّون (الأسود) حيث حضر في خمسة نصوص من أصل عشرة شملتها الدراسة، والأسود -كما هو معلوم- رمز الحزن والألم والموت.
وأما اللون (الرمادي) فهو وإن لم يرد إلا في ثلاثة نصوص فإن حضوره في تلك النصوص الثلاثة كان طاغيًا ومهيمنًا على كل الألوان؛ فالألوان تؤول إليه، وهو مسيطر عليها. والعنوان الأول للقصة الأولى في هذه المجموعة (رمادية!!)، حيث يتحول اللون الأخضر إلى الرمادي، وفي القصة الأخيرة من ضمن قصص المجموعة التي وظفت الألوان (جدار) نجد أن اللون الرمادي يقول كل شيء!
ولعل القاص في هذه المجموعة يريد التعبير عن شعوره برمادية الحياة من حولنا وفقدانها ملامحها؛ فالألوان المبهجة غابت، وصار المُلك للّون الرمادي بما يتضمنه من الدلالة على المشيب، واختلاط الرؤى، وضياع الهدف، وفقدان الملامح! إنه اللون المسيطر الذي يهيمن على كل شيء، ويقول كل شيء! يقول كل شيء لأنه يجمع تحته الأضداد، ويحتوي المتناقضات!
** **
د. محمد بن يحيى أبوملحة - أستاذ الأدب الحديث بجامعة الملك خالد