وفي المساء رأيت نفسي أجلس تحت الضوء الخافت والمقعد الخشبي الذي أجلس عليه غير مريح حين شعرت بألم أسفل ظهري, لكني تجاهلت وجعي كما كنت أفعل دائماً حين تشدني البهجة والدهشة كما يحدث لي الآن، حيث أنظر إلى حوض السمك الكبير الذي يحجبه عني وجه هذا الشاب اللطيف الجالس أمامي بصحبة هذه الفتاة الباسمة الحنونة والجميلة التي تضع يدها على خدها وتبتسم لي بشهية رائعة، كلما ملت براسي مال الشاب برأسه ينظر إلي وأنا أحاول اقتنص حركة السمكة الملونة بزعانفها الصفراء وهي تقترب من قاع الحوض ثم تسبح لتتجاوز مجموعة الصخور المنثورة والملتصقة بغير ترتيب في الواجهة الزجاجية للحوض الكبير والذي كأنه عالم أخر أو سجن كبير لكنه سجن يمكن العيش فيه وكنت أفكر لو أن هذه السمكة الملونة الجميلة خرجت من هذا الحوض الزجاجي الفخم لهلكت، لكني أبعدت الفكرة عن مخيلتي حين مدت الفتاة الجميلة الباسمة بقطعة خبز وضعتها لي في الصحن الرخامي الموضوع على الطاولة عن يساري, كانت الفتاة تحدث الشاب الذي يحجب عني حوض السمك الكبير بهمس وهي تنظر إلي وهي تبتسم لي وهي مفرحة وهي كوجه طفلة ولذلك شعرت بفرح رهيف وعميق مثل حوض السمك الكبير هذا .
أحس أني أفتقدها الآن، صحيح أنها لم تكن ممن يقع رجل مثلي في حبها بطريقة عفوية وسريعة، فهي إنسانة عادية جداً فلم يكن صوتها عذباً ومخملياً لكنه بالنسبة لي يحمل رنة خاصة كانت تجلب إلي السعادة والبهجة خاصة حين كانت تدللني بشغف لذيذ، ولم تكن لتهتم كثيراً بالتنزه معي حين أدعوها للخروج وكان ذلك يعجبني لأنه يمنحني بعض الشعور بالحرية للتمتع بمشاهدة المتاح من أنثوية أجساد النساء في شوارع الرياض، كانت طويلة وهزيلة، ولم يكن هناك انحناءات في جسمها، بالنسبة لي كنت أود لو أنها كانت تتمتع ببعض السمنة لكنها كانت رائعة حين تمنحني عريها وهي راضية وحنونة ، شعرها بلون القهوة ، بُنّي وناعم، كانت تغريني حين تضع أحمر الشفاه الخاص بها فقد كان أحمر فاتحاً ورقيقاً .
لقد علمتني هي وعلمتني ابتسامتها الحزينة الشاحبة أثناء معاناتها مع مرضها أن الزواج لا يعني السعادة إذا لم يكن الجسد قادراً على العطاء، لم أولي اهتماماً جاداً حينها بمشاعرها المرتبكة وسمحت لها بالغرق وحيدةً في تساؤلاتها عن الحياة والموت، الآن إذ تتوارد الخواطر المؤسفة والحزينة على خيالي في هذه اللحظة وأنا أشعر أني مثل هذه السمكة المسكينة في حوض العلم أقول لنفسي إني لن أخسرها، غداً أزور تراب قبرها وأراضيها بطريقة ما من دون التطرق من جديد إلى موضوع فقدي لها، الخطأ أنني لم أكن أقدّر أهمية أني لازلت أحبها، الآن أحس أنها لم تكن إنسانة عابرة مرت على هامش حياتي ورحلت، أحاسيسي بحاجتي لها وهي قربي ظلت نائمة في مشاعري لا تظهر إلا في حالات نادرة وأنا نادم على أني كنت لا أقول لها في كل الأوقات أني أحبها وأعشقها وإن بادلتها مشاعر الود في بعض الأحيان النادرة كانت مشاعري تخرج على صورة كلمات لا ثقل لها ربما لأن الناس الذين حولي كانوا مثلي، أو على الأقل هذا ما أتذكره الآن عن مجتمعنا الرجولي النزق، مرّت خمس وأربعون سنة كانت بقربي وكنت أحبها بطريقتي أنا وليس كما كانت تود هي أن تعيش ذلك الحب لكن الزمن مر في غفلة وبسرعة لسيحق بقية حنيني لعينيها.
لم يكن ثمة شيء يتراءى لي هنا وهناك كأني فقدت الإحساس بالزمن، كنت وحيداً وحزيناً رغم أن هذا الشاب الوسيم والفتاة الرائعة يهتمان بي ويحاولان إغرائي بأن أتناول ما يضعانه أمامي من طعام، لم يكن ثمة شيء في داخلي، سوى ذلك الخوف المتنامي من صور الماضي و تلك اللحظة الفاصلة ما بين الموت والحياة التي قاسيتها أثناء أنين زوجتي وهي تغادرني للمجهول.
شتتني اليأس والحسرة والفقد، نهضت ورحت أقترب من حوض السمكة الضخم ورحت أتأمل السمكة الوحيدة وشعرت بحزنها الذي يشبه حزني الآن وسمعت الشاب يقول للفتاة الجميلة :
* أمسكي بيد أبي جيداً كي لا يغافلنا ويتوه كما فعلها في المرة السابقة، لقد أتعبني وأحزنني وأنا أستلمه من مخفر الشرطة بالأمس .
نظرت إلى السمكة وكانت ترتفع وتنظر إلي بحنان .
** **
علي عبدالله العلي - الدمام 2017/5/20