يغادر البيت، يستقبله الشارع، يشعر بأن قدميه تحملان جسداً جديداً، شعر بالغبطة وترنم بمقاطع من أغنية شعبية.
أراد أن يمد يده مصافحاً لأول عابر يقابله، تريث قليلاً، من يدري ربما يجد من يلمح جسده الجديد، ربما يكون الوحيد المتميز بين بقية الناس، أعطى الحرية لقدميه، اشترى صحيفة يومية، تصفحها، قد يجد خبراً عنه، ربما يجد صورته في الصفحة الأولى، تذكر أنه لم يقف أمام المرآة ليتأمل ملامح وجهه قبل مغادرة بيته، ربما تغيرت الملامح التي ألفها لفترة طويلة من الزمن، فكر أن يعود، تذكر أنه أعطى الحرية لقدميه ولسوف ينصاع لهاتين القدمين، وضع الصحيفة تحت إبطه، وتحسس رأسه، لازال موجوداً.
الشارع يضج بالمارة، لا أحد يعبأ به، أراد أن يقتحم هذا التجاهل بسؤال يوجهه لأحدهم، بحث عن سؤال يجعل الآخر يتحدث عنه بإسهاب، ربما يفطن لجسده الجديد، ربما هذا الجسد لا يثير الانتباه، تقوده قدماه لأحد المحلات التي وضعت عند مدخلها مرآة كبيرة، لمح جسده ، تأمل وجهه، عاودته الغبطة من جديد، ترنم بمقاطع من أغنية شعبية.
«أجل.. أنا أستحق الانتباه» تساءل: ما بال أعين الناس لا ترى؟ عاودته فكرة السؤال، بحث عن شخص توحي ملامحه بالذكاء، سيسأله أي سؤال وحينها سيعرف مدى تميزه.
-- لو سمحت....
لم يعره ذلك الرجل بالاً.
--هل لي أن أعرف...
عنق ضبع، لماذا لا يلتفت ليعرف مصدر الصوت.
-- أنا هنا...
ربما لا أحد ، لكن الشارع مملوء بالناس، الرصيف تآكل من أقدامهم، لا أحد يرغب أن يتعرف على الآخر ، ليس مهماً أن يتعرف علي، لكن جسدي ، وجهي، هذه القامة التي تحملها قدماي جديرة بالانتباه ، تذكر ذلك وشعر بالغبطة وبدأ يترنم بمقاطع من أغنية شعبية.
أراد أن يجعل صوته مسموعاً، ربما لفت نظر أحدهم، يكفي أن يقول «مذهل» ، لا أحد يسمعه، هذه اللا أحد أزعجته كثيراً، ما الذي حدث، انصاع مرة أخرى لقدميه، شعر بأن رأسه بدأ يذبل، لم يعد يقدر على التفكير، منذ أن غادر بيته وقدماه تقودانه، لم يعرف تماماً إلى أين، لم يتوقع بأن هذا الشارع يتسم بهذا الامتداد اللا متناه، حتى هؤلاء الناس، رجال ، نساء، صبية، تطأ أقدامهم هذا الرصيف، تزدان عيونهم بالبضائع المعروضة خلف الزجاج، يتحدثون يسمعهم، لكنهم لا يستمعون إليه مطلقاً، حتى تلك المقاطع من الأغنية الشعبية التي ترنم بها كثيراً لا يعرفها غيره.
اصطدمت بساقه يد طفل صغير، شعر برعشة لذيذة، جميل أن يحدثه أي كائن ولو كان طفلاً، ابتسم، أراد الطفل أن يبتسم، نهرته أمه، قادته بعيداً عنه، شعر بشيء من الكراهية لتلك المرأة، لقد أجهضت بسمة الطفل، لقد أجهضت أحلامه، فكر أن يذهب إليها ويوبخها.
-- من المفترض معاملة الأطفال بلطف...
رغم تأكده من خروج تلك الكلمات من فمه وقد اكتست بحلة الغضب، لكن تلك المرأة لم تأبه به، ربما لم تسمعه.
-- من المفترض معاملة الأطفال بلطف...
أراد أن يمسك بتلك المرأة ليعيد عليها مرة ثالثة ما قاله، سيصرخ، حتى ولو لم تستمع إليه سيقدر ذلك الطفل الشعور تجاهه، سينحني، يقبله، ويناوله تلك الابتسامة مرة أخرى وسيلتقف ابتسامة ذلك الطفل بفرح، يكفيه ذلك وعندها سيشعر بجدوى مغادرته البيت، بحث عن تلك المرأة، بحث عن ذلك الطفل، ما أسوأ هذا الزحام، لا يدري إلى أين اتجها، أراد الوقوف، لم يستطع فقدماه لم تتعبا بعد من هذا المشي، قرر التمرد على قدميه، لينصاع قليلاً لذلك الرأس المحمول دائماً، شعر بأن بقية الجسد سيعيش صراعاً عنيفاً بين الرأس والقدمين، لمن ينصاع، قرر الوقوف، كانت القدمان قد اجتازتا به الرصيف إلى وسط الشارع، فوجئ بحافلة مسرعة، أراد الهرب، خانته قدماه، اصطدم بالحافلة وتدحرج الرأس بعيداً، وضع أحدهم الصحيفة على الجسد المسجى، كانت صورته تحتل ركنا ًفي الصفحة الأخيرة كتب تحتها « خرج ولم يعد».
** **
- عبدالعزيز الصقعبي