كانت تقف جانب الجدار , وتنظر إليّ وأنا أنقل الملعقة من الطبق إلى فمي. كانت الأطباق كثيرة على الطاولة.. اخترت منها الطبق الذي لا تحبه. ومع ذلك كانت تنظر للملعقة وهي تذهب وتجيء من الطبق إلى فمي, تقلّب النظر بلا تعب.
قلت لها وأنا ألقي بالملعقة، وأتناول بأصابعي الأغصان الخضراء من الصحن :
- إنَّ هذا أفضل طعام لفقراء الدم .
صَمَتُّ قليلاً أنظر إليها
سألتها:
- ألا توافقينني بأنّ الحياة تبدو أكثر تشبثاً بمن يركلها بقدمه؟!
لم ترد.. فقط نظرت إليّ بسكينة, ثم للصحن.
أكملت:
- هل تعلمين أنّ هذا الأكل ؛ لكي أحافظ فقط على مستوى الحياة في دمي ؟ .
كنت أحدثها وأنا آكل ، وألعق بقايا الأعواد الخضراء وكأنني أتناول طبق (محارات بالصوص الفرنسي) وليست سلطة من الأعلاف الخضراء.
قلت:
- لقد سئمت كل ما يعتقده الأطباء عني ، وما يهمسون به لبعضهم في الردهات من خلفي.. كلهم أغبياء, يعتقد الواحد منهم أنه بمجرد أن يرتدي هذه السترة البيضاء, يستطيع أن يملي على الناس كيف يعيشون وماذا يأكلون..
لم يكن كلامي يثير اهتمامها.. فقط تغمض عينيها قليلاً وتعود لتفتحهما بهدوء, وهي تنظر لفمي. فأحاول إزعاج هذه الثقة المطمئنة بها, فأضرب بالملعقة على حافة الصحن.. لكنها تغمض عينيها وتفتحهما في هدوء كعادتها وقد ازدادت ثقةً واطمئناناً.
سألتها:
- هل تصدقينهم؟ يعتقدون أني أحب أن أبقى مريضة لكي أكون محط الرعاية والاهتمام.!! ما رأيك بهذا السخف؟ من تصدقين ؟ هل تصدقينني ؟ أمْ تصدقينهم؟
لم ترد.. ولم تومئ حتى برأسها!
فتابعت حديثي لها:
- إن كانت الحياة نفسها لا تهمني.. هل من الممكن أن أهتم لهم بشكل معادل للحياة..
اغتصبت ضحكة لكي أثيرها فقط ، لكن لا يبدو أنّ هناك ما تهتم له!
عندما أنهيت صحني ، لعقت أصابعي من الزيت والخل, تعلق نظرها هناك طويلاً بدون أدنى كلمة.. لا تطلب ولا تسأل.. تثير غيظي فقط.
عندئذ قمت وتركت لها الطاولة, بعدما أزحت لها كل أغطية الأطباق الأخرى.. وإذا بها تقفز بكل هدوء, وثقة من خبر الحياة وعرف أسرارها, تقفز فوق الطاولة دون أن تلتفت إليّ, أو تشكرني بنظرةٍ.. تجس الأطباق بأنفها عاكفة ذيلها وكأنّ هذه الطاولة كانت لها في الأصل, وأنا من يجب أن يقف بجانب الجدار.!!
** **
- منيرة الأزيمع