معرفة علل ابتعاد الناقد والكاتب والقارئ عن القصة القصيرة وتوجهه لأجناس أخرى ليس بالموضوع السطحي الذي يستطيع كاتب ما إرجاعه لعوامل معينة، فالموضوع عميق يحتاج إلى دراسة بحثية نقدية، لكن أن يكون الابتعاد عنها ناتجًا عن خصائص القصة القصيرة ذاتها فهذه العلة التي تستعصي على الحل، فكأننا نقول العلاج بالاستئصال، استئصال بعض خصائصها، وليس كيانها بالطبع. فأول خاصية للقصة القصيرة ارتباطها منذ ظهورها بالصحف والمجلات، فهي تذهب إلى القارئ الذي لم يبحث عنها، فكاتبها في هذا أشبه بطل المسلسلات التلفزيونية الذي لا يُعترَف بنجميَّته أمام بطل الأفلام السينمائية الذي يشبه كاتب الرواية، فالبطل السينمائي يحظى بالاحترام والتقدير والاهتمام من الجمهور والنقاد والمهرجانات والجوائز، لأن الجمهور يذهب إلى السينما ويدفع، في حين البطل التلفزيوني يأتي لهم وبلا مقابل، تماما كالقارئ الذي يذهب إلى المكتبة ويطلب ويدفع لاقتناء رواية / كتاب، وقارئ القصة القصيرة الذي يشتري الصحيفة والمجلة ليقرأ الأخبار السياسية والرياضية وتَعرِض له قصةٌ هدية مقتطعها قيمتها من ريالين الصحيفة. وأظن أن النقاد الكبار (وأخص الكبار) ربطوا عملهم النقدي بالفن الغالي الثمن، حتى لا تُهدَر مناهجهم النقدية القيمة (كما يعتقدون) في نقد قصة متطفلة على القراء بلا ثمن، ولا أظن أن هناك سببا غير سبب البريستيج لابتعاد الناقد عن القصة، فهو يرى نقد القصة القصيرة يقلل من مكانته النقدية ووضعه الثقافي.
وابتعاد كاتب القصة القصيرة عن كتابتها فلأن خاصيتها اللغوية لا تسمح له أن يستخدم لغة الصحافة، إما أن يكتب بلغة قوية متينة وإما أن يخلق جنسا آخر لعمله غير القصة القصيرة، في حين لغة الصحافة لا تضير الرواية ولا تعيبها، بل على العكس أشهر الروايات قراءة وشراء المكتوبة بلغة الصحافة، فمجهود قصة قصيرة من صفحة واحدة ضعف مجهود رواية من عشرات الصفحات. وصرنا نعرف ماضي كاتب الرواية من لغتها، فذات الفنية العالية صاحبها شد الرحال من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية، والضعيفة لغويا لم يمارس صاحبها كتابة القصة القصيرة من قبل.
أما عزوف القارئ عن القصة القصيرة في هذا الزمن فأمر محير، فقارئ اليوم الذي يميل إلى الكتابات السريعة القليلة الكلمات يأخذ اتجاها عكسيا من قراءة القصة، ربما لأن القصة القصيرة من الفنون التي يشارك القارئ في وضع نهايتها، وقارئ اليوم لا وقت له ولا صبر،
فوسائل الاطلاع لا تدع له مساحة للتأمل فيما وراء القصة، يريد لكل بداية نهاية، وهذا لا يتحقق في فن القصة القصيرة إلا في قصص الأطفال وقصص الوعظ. وكعادة القصة القصيرة في الذهاب إلى القارئ من حيث لا يطلبها ظهرت القصة القصيرة جدًا في وسائل الاطلاع، وهذه أيضًا فشلت، وأقتبسُ من الحديث الشريف (تنكح المرأة لأربع) لأقول تُقرأ القصة القصيرة جدًا لثلاث: لمغزاها، أو للغتها، أو لتقنيتها؛ ولم يظفر أحد بالثلاث، مع أن الأمر لا يحتاج غير قراءة (أحلام فترة النقاهة) لنجيب محفوظ، ليتقنها، وأنا أذهب أبعد من أحلام نجيب محفوظ لأختم المقال بقصص قصيرة جدا للقاص عمرو بن بحر:
قيل لرجل من العرب: قد نزلت بجميع القبائل، فكيف رأيت خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث.
كان معاوية تعجبه القِبّة وتغدى معه ذات يوم صعصعة بن صوحان، فتناولها صعصعة من بين يدي معاوية؛ قال معاوية: إنك لبعيد النُّجعة. قال صعصعة: من أجدب انتجع.
كان المغيرة بن عبدالله بن أبي عقيل الثقفي يأكل تمرا هو وأصحابه. فانطفأ السراج، وكانوا يلقون النوى في طست، فسمع صوت نواتين فقال: من هذا الذي يلعب بالكعبين.
مدّ يده أبو الأشهب إلى شيء بين يدي نميلة بن مرة السعدي، فقال: إذا أفردت بشيء فلا تعترض لغيره.
** **
- د. سعاد فهد السعيد