أولاً: قراءة نشأة الفن القصصي، وتحديد العوامل التي أسهمت في نشوئه.
اهتم النقد القصصي بنشأة القصة السعودية، ووقف عند العوامل التي أسهمت في ظهورها، حيث يرى الدكتور عبدالله المبارك أن نشأة فن القصة السعودية مرتبط بأمرين:
* تعدد الصحف والمجلات المهتمة به.
* تأثير الأدب العربي المعاصر في الأقطار المجاورة.
أما الدكتور إبراهيم الفوزان فيكون أكثر تفصيلاً حينما يرجع نشأة الفن القصصي في المملكة العربية السعودية إلى عوامل، ومؤثرات منها:
* ارتفاع مستوى الثقافة العامة بسبب انتشار التعليم.
* انفتاح الثقافة الغربية على الشرق العربي من خلال الصحافة، والترجمة.
* فتح المكتبات العامة التي اشتملت على الكثير من القصص.
* الاستقرار السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي.
مؤكداً أن هذه العوامل أهّلت، وهيأت الأدباء لكتابة القصة الفنية في المملكة العربية السعودية على أسس علمية متطورة. وإذا كان الدكتور محمد الشامخ يربط ظهور النثر الأدبي في المملكة العربية السعودية عموماً بظهور الصحافة، ويعدها العامل الأول الذي أسهم في نشأة الفن القصصي، كما يؤكد على أن الفن القصصي الحديث في المملكة العربية السعودية نشأ بفعل الاتصال بالأدب الغربي. فإن الدكتور منصور الحازمي يتفق مع كل من سبقه، ولكنه يرى أن التأثير العربي في نشأة قصتنا أعمق، وأقوى، وينقل عن عزيز ضياء قوله ـ عن تلك الفترة ـ: (إنه لا يوجد عندنا أدب بالمعنى الصحيح، إذ إن ما ينشر في جريدتي (أم القرى) و(صوت الحجاز) ليس إلا تقليداً للكتاب المصريين). كما يذهب الحازمي إلى أن كتاب (خواطر مصرحة) لمحمد حسن عواد، يحمل سمات غالبة على كتابات العقاد في تلك الفترة، كعنف النقد، وجرأته، وحريته. كما ينقل عن أحمد عبد الغفور عطار رأيه الذي يشير إلى أن أساتذة أدبائنا – في مرحلة النشأة - كانوا عرباً، ولم يكونوا أوروبيين، فتأثرهم بمدرسة المهجر، ومدرسة الديوان، ومدرسة أبولو، ومدرسة طه حسين أكثر من تأثرهم بمدارس الغرب، ونظرياته.
أما أثر الثقافة الغربية على مرحلة النشأة فلا يرى الدكتور منصور الحازمي أهميتها إذ يقول: (لقد عرفوا شكسبير، ووردزوث، وبيرون، وشيلي، وهازلت عن طريق خليل مطران والعقاد والمازني.. ولكن معرفتهم بهم لم تكن على درجة كبيرة من القوة والعمق، بل لا تعدو في معظم الأحيان أن تكون معرفة عابرة لا تتجاوز المعارضة، أو ذكر الأسماء، أو الإشارة العجلى إلى الأفكار والنظريات).
ويضيف الدكتور سحمي الهاجري إلى ما سبقه من تحديد لتلك العوامل التي أسهمت في ظهور الفن القصصي أن جو الحرية الذي تحقق مع بداية العهد السعودي كان له الأثر الكبير في نشأة القصة السعودية، إذ يقول: (فانطلق الكتاب يعبرون من خلال الشعر، والمقالة، والقصة عن أفكارهم، وآمالهم، ومشكلات مجتمعهم، وكانت الحكومة تعامل الأدباء معاملة حسنة).
وكما اتفق هؤلاء النقاد في تحديد عوامل نشأة الفن القصصي في المملكة العربية السعودية، وكانت آراؤهم تتمّم بعضها، وتضيف إليها، فإنهم أيضاً لا يختلفون حول التأريخ لظهور الفن القصصي السعودي، لذا يقول محمد عبد الرحمن الشامخ: (ولم يكن إسهام الكتّاب في مجال الفن القصصي سوى محاولات في فن المفاخرة والمقامة كتلك التي نشرها أبو بكر خوقير عام (1911 – 1912 م) بعنوان (مسامرة الضيف بمفاخرة الشتاء والصيف) والمفاخرة التي أجراها الشاعر إبراهيم الأسكوبي بين القطار والباخرة. وفي الحقيقة أن المحاولات الأولى في ميدان الفن القصصي الحديث لم تأتِ إلا عام 1930 م. وذلك حينما أصدر عبد القدوس الأنصاري روايته القصيرة التوأمان). كذلك يؤرخ الدكتور إبراهيم الفوزان لظهور القصة الفنية في المملكة العربية السعودية بقصة (الحجاز بعد 500 سنة) التي وردت في كتاب (خواطر مصرحة) لمحمد حسن عواد عام 1344 هـ 1926م. ورواية (التوأمان) لعبد القدوس الأنصاري التي صدرت عام 1348 هـ 1930م.
وعنهما ينقل الدكتور منصور الحازمي فيذكر أن رواية التوأمان هي بداية متواضعة للقصة الطويلة في الأدب السعودي الحديث، ويقول عن نشأة فن القصة السعودية: (وخلاصة القول في نشأة القصة السعودية القصيرة أنها كانت نشأة قلقة ومتعثرة، تنظر إلى التراث مرة، وإلى القوالب الحديثة للقصة مرة أخرى، وهي في بداياتها من الناحيتين: الزمنية، والفنية لا تختلف كثيراً عن مثيلاتها في معظم البلدان العربية الأخرى).
أما سحمي الهاجري فيرى أن المحاولة الأولى في ميدان الفن القصصي الحديث هي رواية (التوأمان)
وتأتي المحاولة الثانية ممثلة في رواية (الانتقام الطبعي) لمحمد نور الجوهري. ويذهب إلى أنّ بداية ظهور القصة القصيرة جاء متزامناً مع صدور صحيفة (صوت الحجاز) عام 1932م. يقول: (أما بدايات القصة القصيرة فلم تظهر إلا بعد صدور صحيفة (صوت الحجاز) التي أفسحت صفحاتها للأقلام الشابة، فزخرت بالمقالات الأدبية والنقدية، ونشر بها في هذه الفترة العديد من المقالات التي صبغت بالأسلوب القصصي، ونشر بها محاولات في النقد القصصي، كما نشر بها خلال مرحلة النشأة عشر قصص قصيرة أولها قصة (الابن العاق - لعزيز ضياء). من هنا نجد أن اهتمام جيل التأسيس النقدي كان منصباً على أمرين:
أ/ رصد العوامل التي مهدت وهيأت لظهور الفن القصصي في المملكة العربية السعودية، و يمكن اختزالها في:
o ارتفاع مستوى الثقافة بسبب انتشار التعليم، ووجود المكتبات، وظهور الصحافة.
o الاستقرار السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، واهتمام الحكومة بالأدباء ورعايتهم.
o الانفتاح على الثقافات الأخرى، سواء العربية، أو الغربية.
ب/ التحديد الدقيق لصدور (القصة/الرواية) الأولى، التي اتُّفق على أنها (التوأمان) كأول عمل قصصي يحمل السمات الفنية، وربما كان حرصهم على عدم الاختلاف في الرأي هو ما جعلهم يصنفون القصص السابقة لهذا العمل على أنها مقالات قصصية، وذلك مثل: قصة (على ملعب الحوادث) لعبد الوهاب آشي، التي نشرت في كتاب (أدب الحجاز)، وقصتي محمد حسن عواد (الزواج الإجباري) و(الحجاز بعد 500 سنة) وقد نشرتا في كتاب (خواطر مصرحة). علماً بأن هناك من جاء بعدهم ونقض ما اتفقوا عليه، حيث أثبت الدكتور عبد العزيز السبيل في بحث له تحت عنوان (الرواية المحلية، رؤية في مرحلة النشأة) أن رواية (الانتقام الطبعي) لمحمد جوهري هي التي تمثل تاريخاً حقيقياً لبدء الرواية المحلية، بمعنى أن بداية ظهور الفن القصصي السعودي كانت عام 1935 م
ثانياً: علاقة القصة السعودية بالفنون الأخرى.
أ/ علاقة القصة القصيرة السعودية بالمقال القصصي.
يذهب الدكتور عبدالله المبارك إلى أن كتاب المقال الوصفي، والمقال الإصلاحي الاجتماعي استطاعوا أن يَعبروا الحدود الفاصلة بين فن المقال، وفن القصة، وذلك من خلال نجاحهم في الأسلوب السردي الوصفي، وتوفيقهم في اصطناع رسم الشخصيات، وتمكنهم من إقامة الحوار بين هذه الشخصيات، إلى غير ذلك من ضروب الظلال الفنية والتصوير الأدبي. ويؤكد بقوله: (من هؤلاء المجددين محمد حسن عواد الذي شارك في التجديد الأدبي بصورة عامة في مجالات الشعر، والمقال، والكتابة الاجتماعية، والقصة الطويلة، والنقد، ونحن هنا بسبيل دوره بصفته كاتب مقال في تهيئة الأساليب الأدبية لخصائص الفن القصصي). ثم يقول أيضاً (ويمكن لكثير من المقالات الاجتماعية عند هذا الكاتب أن تكون خطوات لقصص ناجحة بل إنه يجنح في بعض اجتماعياته إلى أن تكون قصصاً فعلاً).
ويأتي الفوزان فيذهب إلى أن قصة (أبو زامل) للسباعي تأتي بين المقالة القصصية، والقصة الحديثة، ويعلل هذا التصنيف بقوله: (لأن تعدد أحداثها وتنوع الشخصيات الثانوية في كل حدث متكامل فيها يقربها إلى المقالات القصصية، ولكن وحدة البطل وارتباط كل الأحداث به من قريب أو بعيد يقربها إلى فن القصة الفنية).
وبهذا نجد أن الفوزان هنا يميل إلى التصنيف الدقيق لهذا الفن فهو يفرّق من خلال ما ذكر من بناء فني بين ثلاثة أنواع من الفنون وهي: المقال القصصي، والقصة الفنية، وذلك الفن الذي تمثله قصة (أبو زامل) للسباعي، يقع بينهما. ولعلنا نلاحظ أن الناقد في هذه المرحلة لديه حرص شديد على التصنيف، وذلك من خلال الفوارق الفنية التي يبحث عنها في بناء النص وتقنية الكاتب.
إلا أننا نلحظ خلطاً واضحاً عند الدكتور منصور الحازمي بين المقال القصصي، والقصة القصيرة حيث ذكر أن من أقدم المقالات القصصية، ما كتبه محمد حسن عواد في كتابه (خواطر مصرحة) تحت عنوان (الزواج الإجباري) ولكنه يعود فيقول: (إن قصة العواد هذه تخلو من المعالجة الفنية، ويبدو أنه تأثر ببعض القصص العربية أو المعربة، وذلك لأنها بعيدة كل البعد عن البيئة الحجازية).
أما الدكتور سحمي الهاجري فينقل عمن سبقه، ويذهب إلى أن أول أشكال الأسلوب القصصي ظهرت في صورة مقالات كتبها بعض الأدباء الشبان في كتابي (أدب الحجاز)، و(خواطر مصرحة). ولكنه يعود ليختلف مع من يقول بفكرة نشوء القصة بصفتها تطوراً للمقال القصصي، ويستشهد على ذلك بأن أول من حاول كتابة القصص هو عبدالقدوس الأنصاري، وهو مشهور ببحوثه في اللغة والاَثار والتاريخ، وليس من كتاب المقال القصصي، معتبراً أن محاولة إثبات ذلك يعد نقلاً لأفكار جاهزة قيلت حول القصة في مصر أو البلدان العربية الأخرى كما هي. حيث يقول: (وإذا كانت ظروف نشأة القصة القصيرة في بعض الدول العربية قد ساعدت على أن يكون للمقال القصصي دور معين في هذه النشأة... فإن الأمر يختلف بالنسبة لنشأة القصة في المملكة). ويعد أن التشابه بين المقال القصصي والقصة القصيرة مرده التشابه في المضمون والهدف الإصلاحي.
مما سبق يتضح أن القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية تشكلت من خلال المقال القصصي الذي كان حاضراً في كتابات الشبان آنذاك من أمثال محمد حسن عواد، وعبد الوهاب اَشي، وغيرهما. وذلك بحسب رؤية جيل التأسيس النقدي.
ولعل هذا الجيل من النقاد، والدارسين للأدب السعودي يعتمدون على التصنيف الحاد للفنون الأدبية ويرصدون الفوارق الدقيقة بينهما، ومن هنا نجد أنهم ينسبون المحاولات القصصية الأولى إلى جنس المقال، لأنها لم ترقَ فنياً إلى ما يمكن أن يسمى القصة فهل يمكن القول: إن المقال القصصي هو قصة غير مكتملة النمو فنياً؟
وربما يؤكد ما ذهبت إليه أنهم عندما يدرسون النثر الأدبي بشكل عام لا نجدهم يقدمون تلك الأعمال التي صنفوها ضمن المقالات القصصية. على أنها مقالات، وهذا يعني أنها أيضاً ليست مقالات حسب ما لديهم من مقاييس للمقال، ومن ذلك ما نجده عند الدكتور محمد عبدالرحمن الشامخ الذي درس النثر الأدبي في المملكة العربية السعودية من 1900 - 1945م. فلم نجد من ضمن أنواع المقال لديه المقال القصصي، وحين انتقل من دراسة المقال إلى دراسة القصة القصيرة لم يذهب إلى أنها تشكلت من خلال تطور المقال القصصي وعبوره الحدود الفاصلة بينه وبين القصة القصيرة، وإنما ذهب إلى أن الفن القصصي جاء عن طريق المحاكاة للآداب الغربية حيث يقول: (ولقد حقق الأدباء حينئذ شيئاً من الأصالة في تلك الفنون الأدبية التي عرفها الأدب العربي من قبل كالشعر والمقالة. أما الفن القصصي الحديث الذي وفد إلى الأدب العربي على إثر اتصاله بالأدب الغربي فقد تأخر إسهامهم فيه، وكان إنتاجهم في هذا المجال أقل نجاحاً وأصالة مما حققوه في ميدان الشعر والمقالة).
ب/ علاقة القصة القصيرة السعودية بالتراث العربي القصصي.
لقد تناول النقد القصصي علاقة القصة القصيرة السعودية بالتراث العربي القصصي. يقول د/ إبراهيم الفوزان: (وسوف أعرض بعض الأمثلة، والأقوال، والحقائق التي تكفي لإثبات قدم، وتأصل الفن القصصي في وجدان الأمة العربية، ومدى ارتباط القصة الحديثة بالقصص العربي القديم، وهذا مدخل لا بد منه لهذه الدراسة الأولى من نوعها عن الفن القصصي في الحجاز، حتى يسهل على القارئ إدراك أبوة هذا المولود الجديد الذي بلغ رشده على يد أدباء هذه المرحلة)، ويعد الفوزان أن (المزدوجة الأسكوبية) من أوائل القصص الحجازي الحديث الذي اتجه رواده إلى الاستفادة من أنماط القصص العربي القديم. يقول: (وإذا كان الأسكوبي لم يسر على نمط معاصريه في البلاد العربية في اتجاههم إلى المقامات إلا أنه قد اتجه إلى نوع آخر من ألوان التراث القصصي، وهو لون الحكاية التي تُحكى على ألسنة الحيوانات أو الطير أو الجمادات، وتصاغ بألوان متعددة)، وبهذا يعد د/ إبراهيم الفوزان أن (المزدوجة) لون من ألوان المحاولات الأولى لرواد القصة الحجازية التي أراد أصحابها السير على نمط قصص التراث في الشكل دون المضمون، وكل ذلك قبل تغلب تيار القصص الفني الحديث الذي تحققت ثماره الناضجة على يد رواد المرحلة الثانية في الحجاز، الذي اعتبره د/ إبراهيم الفوزان مولداً للقصة الفنية لديهم. ويذهب سحمي الهاجري إلى رصد الروح القصصية التي تسكن المجتمع السعودي، والتي كان لها الأثر في نشأة القصة القصيرة السعودية. إذ يقول: (والقصة –بمعناها الواسع- معروفة في المجتمع السعودي في مرحلة النشأة ومنتشرة مثل: قصص وقائع العرب وأيامهم، وحكايات الأسمار، والسير والملاحم، والقصص الشعري، وقصص المقامات، وقصص الأمثال، والقصص القرآني، وقد كان يُصاغ على منوال هذه القصص قصص شعبي يتسامر به الناس في البيوت، والمقاهي). وحينما يبحث عن تأثير هذا النوع من القصص في القصة القصيرة في مرحلة النشأة يجد بعضاً من سماته قد تسللت إليها مثل: شخصية البطل ذات الصفة الواحدة طوال القصة، أو التحول إلى صفة مضادة للصفة الأولى، كما أن الصراع غالباً ما يكون خارجياً ضد الظروف، أو ضد شخصيات أخرى، كذلك يلحظ الهاجري أن الحركة في هذه القصص خارجية شأن القصص الشعبي الموجه للسامع، ويأتي المؤلف غير محايد، إذ يتحدث من خلال شخصياته، فتكثر التقريرات، والعبارات المباشرة.
ثالثاً: حركة تطور القصة القصيرة السعودية.
عمل النقد القصصي مبكراً على رصد حركة التطور القصصي في المملكة العربية السعودية، والوقوف عند مفاصل تحولاته، وذلك كما يلي:
أ/ اتجاهات القصة الفنية.
وقد عمل من خلال هذه النظرة النقدية د/ منصور الحازمي الذي يتناول في كتابه (فن القصة في الأدب السعودي الحديث) تطور القصة القصيرة السعودية قائلاً عن عمله هذا: إنه لا يعدو أن يكون محاولة أولية للكشف عن الخطوط العامة، والمعالم الرئيسة في تاريخ، وتطور فن القصة القصيرة في أدبنا الحديث.
حيث يتناول منصور الحازمي حركة التطور القصصي السعودي من خلال اتجاهات فنية يرى أنها تمثل التكوين الفني للكتّاب في مرحلة بدايات القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية، ويمكن أن نختزل رؤيته النقدية حيال ذلك فيما يلي:
يجمع الناقد بين الشعبية، والرومانسية بصفتهما اتجاهين فنيين يشملان معظم ما أنتجه قصاصونا خلال فترة الخمسينيات، ويعلّل الجمع بينهما بأن الشعبية تعني مجافاة الواقع، أو تصويره تصويراً خيالياً يعتمد على الإثارة، والمصادفة، والمفاجأة، وبهذا تلتقي مع الرومانسية الحالمة الحزينة، أو الهاربة من الواقع. كما أن في الشعبية تعلّق بالماضي واستدعاء لملاحمه الكبرى، وكذلك في الرومانسية وقوف على الأطلال القديمة وبحث من خلالها عن الذكريات، والفردوس المفقود. ويمثل هذا الاتجاه عند د/ منصور الحازمي، أمين سالم رويحي في مجموعتيه (والآذن تعشق) و(الحنيّنه)، وخالد خليفة في مجموعته (في وادي عبقر)، وحسن القرشي في مجموعاته (أنات الساقية) و(حب بلا أمل)، و(رسالة غرام).
وتأتي الواقعية عند الحازمي اتجاهاً فنياً يتمثل في ملاحظة الواقع وتسجيله، وجعل حياة الشعب، ومشكلاته مادة للأدب. وتبدو واقعية قاصينا مستلّة من الواقعية المصرية، ويتجلى هذا الاتجاه عند أحمد قنديل، وأحمد السباعي (فهما يمثلان بذور الواقعية في القصة السعودية الحديثة). أما التحول الاجتماعي الذي يعد من أهم الموضوعات التي عالجتها القصة السعودية القصيرة فيمكن ملاحظته عند مجموعة من القاصين منهم: إبراهيم الناصر الذي يتناول في قصته (شبح المدينة) ذلك الصراع الذي يشتد بين المدينة، والقرية، أو بين الحضارة، والبداوة، إن تطور الحياة في مدن المملكة لم يتم دون أن يصحبه صدام مستمر بين القديم والجديد، ذلك الذي مسَّ القيم الاجتماعية، والعلاقات الأسرية، والمبادئ والأفكار، وهذا ما يمكن ملامسته في مجموعة (عرق وطين) لعبدالرحمن الشاعر. كما أن غربة الإنسان في المدينة حضرت في أدبنا المحلي لا في جانبها الاجتماعي، أو الطبقي فحسب، بل حتى في جانبها الفكري، والعاطفي من ذلك ما قدمته قصة محمود عيسى المشهدي (امرأة للبيع)، وقصة نجاة خياط (ستشرق الشمس يوماً).
تشكل الغربة بما تحمل من الحيرة والقلق والإحساس بالضياع اتجاهاً فنياً، ليصبح موضوع القصة هو القاص نفسه الذي يرى العالم الخارجي من خلال تأملاته وأحلامه، وأفكاره التي لا تنتظم منطقياً في اتجاه محدد، ولكنها قد تتجمع حول بؤرة شعورية واحدة. يقول د/ منصور الحازمي عن هذا الاتجاه: (لقد اختلفت القصة القصيرة على أيدي هؤلاء الشباب اختلافاً كبيراً عما كانت عليه عند أسلافهم من الواقعيين. لم تعد تعنى بالبيئة المادية أو الواقع الحسي، بل باللحظات الشعورية، والمواقف النفسية المتوترة. ولم تعد تهتم بالمشكلات الاجتماعية اهتماماً مباشراً، بل بما قد تعكسه هذه المشكلات من أحاسيس ذاتية غامضة). ويمثل هؤلاء الغرباء من وجهة نظر الحازمي القاص محمد علوان، الذي تفيض قصصه بالحزن والتشاؤم، وعبدالعزيز مشري الذي يهدي قصصه إلى الغرباء الذين تنتحر خطواتهم على سواحل الصمت. وفي مقدمة مجموعة المشري (موت على الماء) يقول علي الدميني إن القصة عند المشري (تؤكد على عذابات الذات... إنها عذابات الفرد المسحوق من المجتمع والظروف).
مما يميز تصنيفات د/ منصور الحازمي أنها مستوحاة من المنجز الإبداعي، وملتقطة من القراءة التأملية التي لا تعجز عن التمييز بين الفوارق الفنية التي تتكئ على خلفيات أدبية تنضح بها ثقافة القاصين، وتوجهها قراءاتهم. وربما يُحمد للناقد أنه لم يلجأ إلى التصنيفات الجاهزة لدى من درسوا تجارب قصصية في بيئات أخرى، ومثل هذا العمل يحتاج إلى تطويع التجربة الإبداعية، وتوجيهها حسب منطلقات المذاهب الأدبية والتيارات الفنية، مما قد يخرج تلك التجارب عن واقعها الفني الذي صدرت من خلاله.
ب/ المراحل الزمنية لتطور القصة القصيرة السعودية.
في أول دراسة مستقلة عن القصة القصيرة السعودية يأتي هذا المنجز النقدي للباحث سحمي الهاجري الذي يتناول القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية منذ نشأتها حتى عام 1384هـ - 1964م. وقد حاول الباحث أن يوازن بين التقدم الزمني، والتطور الفني للقصة القصيرة، فرصد أهم ملامح مرحلة النشأة التي تمثلت في:
* خلو هذه المرحلة من النقد القصصي الحقيقي.
* خلو هذه المرحلة من صدور المجموعات القصصية.
* مساهمة القاصين الوافدين في إثراء الساحة القصصية.
* قلة القصص التي توفر لها شرط الفنية.
* ركزت قصص هذه المرحلة على كشف العادات السيئة، والتقاليد الخاطئة.
* اقتصرت قصص هذه المرحلة على التعبير عن واقع الناس في المراكز الحضرية، وأغفلت الريف، أو البادية.
لعل انتهاء الحرب العالمية الثانية كان كفيلاً لدى الباحث بتدشين مرحلة قصصية جديدة أسماها (مرحلة الذيوع والانتشار) وقد ربط ظهور هذه المرحلة بمؤثرات خارجية تمثلت في اهتمام الصحافة بالقصة، وإصدار المجموعات القصصية، ونشر مقالات النقد القصصي، وترجمة نماذج قصصية عالمية.
وقد تميزت هذه المرحلة القصصية بما يلي:
* التركيز على المضمون باعتباره أهم عناصر القصة.
* تناولت قصص هذه المرحلة حياة أفراد المجتمع وما تزخر به البيئة الاجتماعية من مظاهر وصور.
* تعرضت قصص المرحلة لبعض الظواهر، والمشكلات المتعلقة بالمرأة.
* يمكن تقسيم قصص المرحلة إلى: قصة اجتماعية، وقصة عاطفية، وقصة قومية.
* يعد التاريخ الإسلامي مادة للقصة القصيرة في هذه المرحلة.
* غياب القصة التي تستمد مادتها من الدين الإسلامي.
وفي مرحلة جديدة يشكل كل من: إبراهيم فلالي، وحسن عبدالله القرشي، وسعد البواردي، وآخرين.
مرحلة انتقالية يرى الباحث أنها تتميز بما يلي:
كثرة تدخل الكاتب بالتقرير والتفسير وفقدان التبررات، والتحليلات النفسية، وضعف الحبكة والعقدة، وغلبة الدوافع الذاتية للإصلاح. ويرى الباحث أن ممثلي المرحلة الانتقالية هم من أصحاب الاهتمامات المتعددة حيث أصدر عدد منهم دواوين شعرية، وكتب نقدية، واجتماعية، وتاريخية. أما مرحلة التطور نحو الصياغة الفنية فيمثلها ـ من وجهة نظر الهاجري النقدية ـ حمزة بوقري، وعبدالرحمن الشاعر، وإبراهيم الناصر، ومحمود عيسى المشهدي. يقول الهاجري عن كتّاب هذا الاتجاه: (الاتجاه نحو الصياغة الفنية للقصة القصيرة بدأ يتضح عند الكتّاب الذين لم يكتفوا بالمعطيات التي أفرزها الأدب السعودي، بل اتصلوا بالأدب العربي في مصر والشام، وقرأوا إنتاج رواد القصة العرب، وترجمات إنتاج القاصين العالميين).
ويخلص الناقد إلى أن أصحاب هذا الاتجاه يتميزون بما يلي:
* تخصصهم في الفن القصصي والروائي.
* التحم لديهم الشكل والمضمون.
* الاقتراب من الموضوعية.
* تعميق الجانب الإنساني الواقعي لشخصيات قصصهم.
* مناقشة المواضيع المحلية من خلال رؤى جديدة.
* الالتزام بقلة الشخصيات، والتركيز على جانب واحد من الشخصية، وقصر الزمن.
ويبدو أن جهد الناقد هنا قد انصرف إلى عملية التصنيف أكثر من دراسة حركة تطور القصة، ويأتي المحرك الرئيس لهذا الاشتغال لديه هو عامل الزمن الذي يتشكل من داخل هذه التصنيفات التي توصل إليها فبعد مرحلة النشأة التي يؤرخ لها بصدور رواية عبدالقدوس الأنصاري (التوأمان)، يؤرخ لنشأة القصة القصيرة بصدور قصة (الابن العاق) لعزيز ضياء عام 1357هـ. تأتي مرحلة (الذيوع والتنوع) وهي المرحلة التي تميزت بصدور المجموعات القصصية، وكانت أول مجموعة تصدر هي (أريد أن أرى الله) لأحمد عبدالغفور عطار كذلك تتمثل مرحلة التطور نحو الصياغة الفنية في مرحلة انتقالية بدأت مع إبراهيم هاشم فلالي الذي أصدر مجموعته (مع الشيطان) عام 1371هـ. أما التطور نحو الصياغة الفنية فيتشكل مع أعمال مجموعة من القاصين أولهم حمزة بوقري في قصة (ماذا يصنع؟) التي نشرت عام 1375هـ وتنتهي هذه المرحلة بنهاية دراسة الهاجري للقصة القصيرة في المملكة العربية السعودية عام 1384هـ.
وبهذا نجد أن العامل الزمني هو الناظم الأكبر للمراحل التي مرت بها القصة القصيرة السعودية في دراسة الهاجري. ولعل هذه الدراسة التحقيبية التي وجدناها عند الهاجري وكذلك عند الدكتور منصور الحازمي في دراساتهم لحركة تطور القصة القصيرة في المملكة لا تتوفر على قدر كافٍ من إمكانية إقناع القارئ، أو الناقد بواقعيتها وموضوعيتها، إذ إن الزمن ليس كفيلاً بوضع حدود فاصلة بين مراحل الإبداع المختلفة، ولعل اتجاهات الكتاب والقاصين محكومة بذهنياتهم، وقراءاتهم، ومتداخلة مع المحيط الثقافي والإبداعي لكل منهم أكثر من امتثالها لعجلة الزمن.
ومن هنا نجد من يعارض المناهج النقدية التي تقوم على النظرة التحقيبية لدراسة الإبداع حيث نجد أن د/ معجب الزهراني يرفض قراءة تطور القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية من خلال تلك النظرة التحقيبية التي مارسها كل من د/ محمد الشامخ، ود/ منصور الحازمي، وفيما بعد سحمي الهاجري. تلك النظرة التي تذهب إلى أن الجيل الأول من كتاب القصة في المملكة العربية السعودية هم الرواد الذين لا يؤمنون بأي فن إلا وهو يخدم غرضاً معيناً، في حين يكون الجيل الثاني متأثراً ببعض النماذج القصصية في بعض البلدان العربية المجاورة، أما الجيل الثالث فقد حاول تطوير هذا الفن فأصبحت القصة لديه تتمرد على جميع الأشكال السابقة. معتبراً أن هذه الرؤية لا تكتسب مصداقية من وجهة نظر أدبية، ونقدية، ومعرفية. ويقول الزهراني: (أنا ألاحظ أن مثل هذه العلاقات، والرؤى ضعيفة جداً بحيث لا نستطيع أن نقول: إن الجيل الأول كان جيل التأسيس، ثم جاء جيل آخر فبنى على ما سبق أن أنجز، ثم جاء جيل ثالث حاول أن يضيف إلى هذه البنية، أو هذا الإنجاز السردي، أو القصصي، بحيث لا نستطيع أن نستكشف ما يمكن أن نسميه بالناظم الداخلي لمجمل التجربة، كما يحصل في سياقات أدبية، وثقافية أخرى)
ويعلل ذلك بأن المجتمع السعودي مر بتحولات كثيرة طالت في مرحلة معينة البنى الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، واللغوية، لذا (كأنما كل جيل لديه حساسية جديدة، رؤية جديدة، لغة جديدة ليست مستمدة، أو منبثقة من تجربة الجيل السابق. وبالتالي كأنما هو ينطلق من هواجس ومعطيات، وقناعات أو رؤى جديدة).
ولم يكن د/ معجب الزهراني وحده الذي يرفض دراسة تطور القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية من خلال تلك النظرة التحقيبية، بل نجد الناقد سعيد السريحي يدعو إلى الارتقاء بمفهوم التطور على أن يكون مفهوماً بيولوجياً تتحرك فيه الأشياء، أو الظواهر من الأدنى إلى الأعلى، ومن البسيط إلى المركب ومن السطحي إلى الأعمق.
أما عن البديل لمثل هذه الدراسات فيرى سعيد السريحي أن السبيل لدراسة تطور القصة القصيرة المعاصرة إنما يمكن من خلال متابعة العناصر التي يتكون منها هذا الفن، وتتبع ما قد طرأ على هذه العناصر من تطور، أو تغير سواء في الوظيفة، أو كيفية الاستخدام، كمحاولة للوصول إلى نموذج افتراضي تترامى إليه القصة في حركة تطورها، وتترامى إليه عبقرية الكاتب في بحثه عن شكل جديد لكتابته.
** **
- قليل محمد الثبيتي