د. محمد بن إبراهيم الملحم
انتشر مؤخرًا مقطع لطيف لمعلم الصف الأول بالقصيم أقدم على حركة جريئة وجيدة في نفس الوقت حينما أوقف تدريس الرياضيات ليركز على تعليم الأطفال اللغة وبعد أن أتقنوا القراءة بدأ تعليمهم الرياضيات وهذا أدى إلى تفوقهم في كلتا المادتين، وقد أشاد أغلب الناس المعلقين على هذه الخطوة ووجدوها إبداعا خلاقا شكروا المعلم عليه، وأشاركهم الشكر والتقدير لهذا المعلم وأتمنى أن تفيد الوزارة من أمثاله من المعلمين فهم «الأبخص» باحتياجات طلابهم ومداخل النجاح والتفوق لديهم. كما أعلق على أن مافعله هذا المعلم ناديت به كثيرا في أحاديث لي إذ أرى أن تعلم اللغة هو أساس التعلم لكل العلوم سواء الرياضيات أو الفقه أو العلوم أو التاريخ، ولا يقتصر الأمر هنا على الصف الأول الابتدائي بل يتعداه إلى بقية الصفوف، بل هو هناك أشد، ذلك أن الرياضيات مثلا في الصف الأول الابتدائي تستخدم لغتها الخاصة وهي لغة الرموز الرياضية: الأرقام والمقارنات المنطقية وربما الجمع والطرح وهي لغة قابلة للتعلم في هذه السن ولا علاقة لها باللغة العربية (أو الإنجليزية لمن يدرس بها) وإنما هي لغة قائمة بذاتها يتعلمها كل منا ليستخدمها لغرض الرياضيات فقط (ولذلك تعتبر لغة ميتة)، بينما في الصفوف التالية تظهر مهمات حل المشكلات (أو ما نسميه المسائل التطبيقية) وهذه تتطلب من المتعلم أن يقرأ المسألة باللغة العربية ويفهم قصتها او منطقها أو فرضيتها ثم يفكر في تحويلها إلى من نص باللغة العربية إلى رموز بلغة الرياضيات ليحلها بعد ذلك، فهو يقوم بالترجمة في الواقع، وليتأمل أحدكم ممن يتقن اللغة الإنجليزية جيدا أني أعطيته نصا بالعربية كتب بمستوى بلاغي متقدم لم يألفه وطلبت منه ترجمته، إذا عجز عن ذلك فلن يكون بسبب ضعفه في الإنجليزية وإنما لقلة ثقافته أومهارته بالعربية، وهذا هو حال أغلب طلابنا اليوم يمتلكون المهارة المنطقية والحسابية والرياضية فيحلون الأسئلة المكتوبة بلغة الرياضيات الرمزية دون إشكال أما عندما تقدم لهم مسألة تطبيقية كتبت باللغة العربية فإنها تستعصي عليهم ... ويشتد الأمر أكثر عندما يلتحقون بالجامعة حيث الدراسة بالإنجليزية. والأمر نفسه ينطبق على مادة العلوم سواء في المرحلة الابتدائية أو حتى في فروعها بالمرحلة الثانوية الفيزياء والكيمياء والأحياء، وكذلك بقية المواد سواء في العلوم الشرعية أو الأدبية والإنسانية بيد أن أثر اللغة في الرياضيات والعلوم أد وضوحا، وكثيرا ما أصادف هذا الموقف مع أحد أبنائي أو طلابي فأشرح لهم مسألة فيزيائية أو رياضية استعصت عليهم ثم أقول في نهاية الأمر: لاحظ إني لم أشرح لك فيزياء هنا وإنما بسطت لك لغة المسألة وفككت لك جملها وعباراتها بطريقة تساعدك على استيعاب معانيها ومدلولاتها فتستطيع التفكير في طريقة الحل وأسلوبه بنفسك.
ودعونا نتأمل في حال منهجية التعليم التي تعلم بها علماؤنا القدامى جدا ممن اكتشفوا وأضافوا للعلم كابن الهيثم والخوارزمي وموسى بن شاكر وحتى علماء الشريعة كابن تيمية والغزالي فتلك الأجيال (وإلى عهد قريب) تتعلم اللغة العربية بعد حفظ القرآن ثم تتعلم بعدها الآداب والتاريخ والسير ليسهم ذلك كله في تهذيب اللغة وصقلها وتمكنهم منها فهي أداتهم لفهم بقية العلوم التي يدرسونها بعد ذلك، ولا شك أن فهم العلوم البحتة والرياضيات بما فيهما من المنطق والتحليل يحتاج إلى براعة في اللغة وتمكن من كل أوجهها ومداخلها ليسهل الاستيعاب وتصور المسائل، ومن قرأ لكبار علماء الغرب العلميين المعاصرين كأينشتاين وفاينمان يعجب ببراعة أسلوبهم اللغوي وتمكنهم من عنصر البلاغة وتطويع العبارات. مشكلتنا اليوم أن معلمينا أنفسهم مصابون بصعوبات لغوية ومناهجنا تتباهى أمام العالم بمستواها اللغوي المتقدم (وكأننا في مبارة كتب مع دول العالم) وفي نفس الوقت فإن اللغة العربية تدرس لطلابنا بمستوى سطحي وبمناهج تتخلف في غالب الأحيان عن بلاغة نصوص كتب العلوم الأخرى في نفس الصف أو المرحلة فأنى لطلابنا أن يتفوقوا ويبرعوا !!
ساتحدث لكم في المقالة القادمة عن مقترحي الثوري وبعض الاستشهادات من أدبيات هذا الموضوع المحلية والعالمية.
** **
- مدير عام تعليم سابقا