د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** تحتوينا العاطفة مثلما تسقينا الغيمة وكما تظلنا الخيمة؛ فلا تُقيم ولا تدوم، ونبتهج بقطرات المطر وحميمية العواطف فنلوذ بها من الجدب والجفاء والعواصف، وفي الحالين تتطرف مشاعرنا وفق المواسم المورقة والمرهقة فننأى وندنو ونحب ونجفو ونمدح ونقدح، ونردد ببهجة المنتشي: «ونحن أناس لا توسط بيننا...»، ولم نقدِّر أن «أبا فراس» قد هجا قومه بهذا التطرف الحاد؛ فبين الصدر والقبر مسافاتٌ للتوقف والاستيقاف تسعُ مَن يرى الحياة بآفاقها لا أنفاقها وتتجاوز من يرمقها بمنظار حدِّي لا يعترف بمنطق الاعتدال.
** قد تختصر هذه الصورةُ أزمةَ العقل المعتقل الذي يصعب تحريره من الثنائيات المتضادة التي تجذرت في أذهان الأغلبية فلا يرون غير الأبيض والأسود والخير والشر والجمال والقبح والاستقلال والعمالة سواءٌ أعبَّر عن مواقف فردية أم سلوك جمعي دون أن يرتكز على قراءاتٍ منهجية موضوعية تؤمن أن بين الخير المطلق والشر المحض درجاتٍ من المواقف الملتبِسة التي تحمل من الخير نبضَه كما من الشر بعضَه، ومن الألوان درجاتها، ومن المعايير تدرجاتها.
** ضمن أحاديث صاحبكم عبر صفحته في «سناب تشات» قدّم حلقات موجزةً عن «الأخلاق» في طرح تأصيلي يقرر أنها جزء من الفلسفة يعتني بتحديد المعالم الفاصلة بين الصحيح والخاطئ بعيدًا عن الأدلجة والحدود؛ إذ ملامحها متغيرة وفق الأزمنة والأمكنة والبيئات والشخصيات والنفوس والدروس، وحسب إيقاعاتها «الماورائية والطبيعية والتطبيقية»، وهو ما نحتاج إلى تمثله في رسم الثابت والمتحول فيما اصطُلح على تسميته الخلق الرفيع والوضيع.
** الحديث هنا عن مجتمعٍ واحدٍ أو مجتمعاتٍ متماثلة، ولو تمّت مقارنة الأخلاق بين مجتمعات مختلفة لازداد البونُ بينها بما يسمُ خُلُقًا في بلدٍ بما يُضادُّ ما يوسم به في بلدٍ آخر، وحين نتجاوز المجتمعات إلى الأفراد فإن التباس المفاهيم يزداد بدخول الأهواء الشخصية؛ فقد يتبدل الحكم على الفرد بين مُقوِّمٍ وآخر، وبذا ذمَّ «الجاحظُ» محمدَ بن الجهم وامتدح أحمد بن أبي دؤاد، وكذا انتقد «أبو حيان التوحيدي» الوزيرين ابنَ العميد والصاحب بن عباد في كتابه «أخلاق الوزيرين»، وبالصورة عينها شوَّه «المتنبي» كافورًا لحاجة في نفسه، وتندر الرواة بقاراقوش ظلمًا، ولم ينصف المؤرخون أسماءً أو تلاعبوا في صورٍ لغاياتٍ في دواخلهم أو لتوجيهاتٍ أُمليت عليهم، والضدُّ متيقنٌ في تلميع منطفئٍ وتقريظ خامل.
** لم تعد «الأخلاق» قابلةً للتبويب الجامد؛ فالتقلبات الحادة في البناء المجتمعي تجعل غير المقبول مقبولاً والمحرم مباحًا والعيب أمرًا معتادًا، وهذه هي النسبية التي يُفترض وزن الأخلاق عبرها دون الارتهان لأمزجة الناس أو أعرافهم ومن غير أن يمسَّ هذا ثوابت الشرع عقلاً ونقلاً وتأويلاً قاطعًا.
** المثالب مناقب.