د. جاسر الحربش
مكانة الطفل الياباني تأتي في المقدمة بعكس المجتمعات البشرية الأخرى، حيث تضعها بعض المجتمعات عند عتبة الباب.. هذه الأهمية ليست فقط عند الحكومة ومؤسساتها أو الحضانات والمدارس، وإنما في العقل الجمعي للكبار والعجائز والشيوخ.
الياباني الستيني المتقاعد لا يقول مثل نظيره في الدول الأخرى «لقد أديت ما علي وحان دوري في الاستمتاع ببقية الحياة».. لا تعجب لو سمعت أن المسن الياباني من الجنسين مهيأ نفسياً وتربوياً لرمي نفسه أمام سيارة مسرعة لإنقاذ طفل، رغم معرفته أنه ميت لا محالة.. هكذا بكل بساطة.
كل العالم عرف أهمية الصغار في المجتمع الياباني بعد كارثة الانفجار النووي في محطة فوكوشيما.. طوابير لا نهاية لها من المتطوعين الشيوخ والعجائز تسابقوا لتنظيف البيئة من الإشعاع، رافضين مشاركة شباب الجامعات والمدارس في المهمة، لأنهم حسب رأيهم هم مستقبل اليابان.
لا أعتقد أنني أغضب أحداً في المجتمع السعودي لو قلت إن عقلية المسنين تجاه الأجيال الصغيرة عندنا تقول «سوينا اللي علينا والباقي عليهم»؛ بمعنى يدبّرون أنفسهم لأن مهمتنا انتهت.
كيف تفردت العقلية اليابانية بهذا الموقف؟ وما فائدة اليابان كمجتمع وبلاد من ذلك؟.. تفردت اليابان بخصائص كثيرة أهمها التفاني في الإتقان. السيف الياباني الذي يقص الشعرة، فن التقليم الياباني (البونساي) شجرة كاملة في إصيص، لمعان أرضية البيت الياباني لشدة النظافة، الذوبان الوظيفي في روح الفريق، الريادة في اختراع الترانزيستور وصقل العدسات وآلات التصوير.. هذه الإنجازات الناتجة من الاهتمام المتفاني هي التي جعلت للطفولة في اليابان تلك الفرادة من الاهتمام.
يجب أن يبدأ الاهتمام من الأشياء الصغيرة أولاً لإيصال الأشياء الكبيرة إلى أقصى حدود الكمال، هذا هو محور الدوران للعقلية اليابانية.
السؤال عن فائدة اليابان كمجتمع وبلاد من وضع الطفولة في مركز الاهتمام الأول، جوابه يراه العالم فيما تنجزه بلد زلازل وجزر متناثرة لا تتعدى المساحة الصالحة للسكن فيه الخمس من المساحة الإجمالية.
عندما ينمو عقل الطفل في جو متكامل ومتكافل من التركيز التربوي والصحي والتعليمي يتحول المستقبل أمامه إلى أفق مفتوح على العطاء بدون حدود. عجائز وشيوخ اليابان كانوا أطفالاً في بيئة احتضانية، فمسألة رعاية الطفولة رضعوها بأنفسهم منذ الولادة.
ولأن كل حلو لا يكمل فثمة عيب ينبع من التركيز الياباني على ما هو ياباني بطريقة شبه تعبدية.. داخل هذا المجتمع المتجانس نفسه تتقلص الحساسيات المناطقية والطبقية ضد بعضه البعض، لكنها تتقرفص داخل العقل الباطن ضد الأعراق الأخرى غير اليابانية، وقد عانت منها شعوب الجوار أشد المعاناة.
المهم كيف تصل المجتمعات المقصرة مع طفولتها تربوياً وصحياً وتعليمياً كالمجتمعات العربية، كيف تتلمس الطريق إلى ما يشبه الاقتراب من النموذج الياباني في جعل الطفولة بؤرة الحب والاهتمام وصناعة المستقبل؟
لا أظن حتى أستاذة التربية العرب يهتمون بذلك داخل بيوتهم، ولذلك يخرج من نفس البيت داعشي وطبيب ومهندس ومدمن مخدرات في آن واحد.