د. محمد عبدالله العوين
قبل أن أتداخل مع صور عديدة من تكشف الرواية السعودية الحديثة في فترة الطفرة الروائية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م التي غيرت العالم، ونقلت مجتمعنا السعودي من حال إلى حال؛ لابد من التماس قليلا مع مفهوم «الرواية الأخلاقية» الذي لا يستطيع أي ناقد أدبي مهما أنفق من جهد في إثبات هذا المصطلح إلا أنه لن يفلح ولن يجد له نصيرا من طبقة النقاد الواعين المدركين مهمة الفن في إعادة صياغة الواقع بأسلوب الفن لا بأدوات الوعاظ والمرشدين، وأحسب أنه لن يجد له مؤيدا ولا مصفقا أيضا من الروائيين المبدعين الذين لا يمكن أن يحلقوا بخيالاتهم إلا في فضاء فني مفتوح ليس له حدود.
وثمة تساؤل جدلي هنا يقول: هل وظيفة الفن والأدب إصلاح الأخلاق أم تقويضها وهدمها؟
والجواب الجاهز الذي قد لا يعجب فئة غير قليلة من طبقة المحافظين الذين يرون الأدب عصا يقوم بها الأديب ما شط أو انحرف من أخلاق مجتمعه، أو صوتا غليظا ينهر به من خرج على العادة والعرف، أو وسيلة من وسائل التقريع والتوبيخ واللوم لمن يغرد بعيدا عن سياق الواقع الاجتماعي أو السياسي متلمسا رؤى جديدة يرى فيها المستقبل الأجمل والأزهى.
الجواب أن الأدب ليس شيئا من ذلك؛ لا هو يؤدب أو يؤنب أو ينهر، ولا يعظ أو يرشد أو يوجه، ليس الأدب شيئا مما يحلم به بعض من يحمل في وجدانه قسر المبدعين على ما يراه حقا، فإن لم ينصاعوا إلى ما يراه حقا سلط عليهم سياط النقد اللاذع والتقريع الساخط، إن لم يزد عليهما ما هو أشد قسوة من النقد والتقريع اللاذعين الساخطين.
إن وظيفة الرواية الإبداع في تصوير الواقع أو ما يجيش في وجدان الإنسان من مشاعر تضطرب في داخله حبا وكرها، ورضا وسخطا، وحنينا وأشواقا، وشكوى وأنينا، وأحلام وأمنيات، وتوقا ورغبة، وفضيلة ورذيلة؛ فليس ثمة مجتمعا ملائكيا فاضلا لا انحراف فيه ولا شططا، ولا ثمة مجتمعا شيطانيا شريرا لا خير فيه ولا فضيلة؛ يصور الروائي المبدع ذلك كله أو بعضه في عمله كما هي وظيفة أي جنس من أجناس الأدب والفن، وهو من خلال ذلك التصوير المبدع الشفاف يبني عالما خياليا موازيا للواقع في عملية إحلال وإبدال فني متفوق بحيث يعيد الروائي بناء الواقع من خلال الخيال، وهنا ينهض بمهمة المصلح الخفي لا الواعظ المباشر، بل ريما يصل إلى أن يحتل مرتبة عالية في منازل البناة والمصلحين الكبار للإنسانية، فالحطاب الأدبي المبدع في الرواية خطاب إنساني لا محليا، والغوص العميق في ذات الكاتب الذي جزء من العمل هو غوص عميق وتجل للذات الإنسانية بعامة وخروج من المحلية إلى العالمية.
وإذا كان هذا التوصيف الدقيق هو المعيار النقدي؛ فإننا لن نحمل بقسوة على كثير من الروايات السعودية التي تكشفت أو تجاوز كتابها وكاتباتها القدر المألوف المعروف من الاحتشام عند الحديث عن التابو الجنسي؛ بشرط أن نثق في إخلاص الكاتب أو الكاتبة لفنهما وأن غايتهما ليس هدم الفضيلة وإعلاء الرذيلة، أو التلذذ بالوصف لذاته أو التكسب والتسويق أو طلب الشهرة والذيوع، وأن الغرض والغاية من التكشف في الوصف أو رصد اللحظات الحرجة غايته التعبير عن خوالج النفس البشرية ودوافعها الخيرة والشريرة، وأن عمله يتسق اتساقا تاما مع نظرية «الهدم والبناء في عالم خيالي مواز للواقع» بمعنى أن الكاتب مصلح خفي، وفاضل كبير، ومعلم أخلاقي؛ إلا أنه بحكم هيمنة سلطة الفن ينفر من مباشرة المعنى، لأن المباشرة إذا قاربت الفن قتلته، فليس الفن إلا التصوير والخيال، وما جدوى النقل الفوتوغرافي للواقع؟ وما الإضافة في الحكاية التي تسرد بمباشرة فجة دون أن يذهب الروائي بعيدا في عوالم الخيال يتأمل ويتألم ويفرح ويحزن ويفلسف ويعلل ويحلل ويحلم من خلال سياق الأحداث المتصاعدة في حبكة درامية مشوقة تصل بالأحداث إلى النهايات التي ترفع من قيمة الفاضل على الباطل والسامي النبيل على المبتذل الرديء؟!
يتبع