د. عيد بن مسعود الجهني
الفقر عاهة هذا العصر الظالم المتسم بالنزاعات والصراعات والحروب التي خرج من رحمها مهاجرون كثر خاصة من بعض الديار العربية طالبين النجاة من القتل والتشريد لا يكادون يجدون لقمة العيش، يعيشون في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، بعضهم هلك في بطون البحار هرباً من نيران الحروب بأسلحة الدمار الشامل وغيرها.
رأينا كيف حال الفقراء الخاوية بطونهم، الكاشفة عن عظام أجسادهم المنكسرة من وقع الجوع، هؤلاء الفقراء المعوزين عاجزين عن توفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة في أقطار كثيرة من المنظومة الدولية التي تمثلها الأمم المتحدة التي عجزت عن كبح جماح الفقر أو حتى الحد من مسيرته البشعة رغم وعود المنظمة ومنظمات عديدة غيرها والدول الكبرى لجعل هذا العالم خالياً من الفقر.
لكن تلك الوعود ذهبت مع الريح، فالمشهد اليوم يؤكد أن عدد فقراء العالم بازدياد متواتر عاماً بعد آخر، فلا رعاية صحية ولا تعليم ولا عملا يدر دخلا لهم، ناهيك عن غياب إستراتيجية اقتصادية دولية شاملة لتحدي غول الفقر، وخلق وظائف تحد من البطالة المقنعة التي هي إحدى عناصر الفقر الذي يزيد من حدة وقعه غلاء المعيشة وزيادة أسعار السلع والخدمات، فأصبح مقياس الفقر الذي تحدده الأمم المتحدة بين دولار ونصف أو دولارين لا يسمن ولا يغني من جوع.
كيف لفقير معدم أن يحصل على حاجاته الأساسية من طعام وتعليم وصحة.. إلخ بهذه الدولارات اليومية، إذا فرضنا حصوله عليها جدلاً، ولنأخذ مثلاً حياً من على أرض فلسطين وقدسنا الشريف المحتل، فنسبة الفقر بين أهل فلسطين المحتلة هي الأعلى في العالم (76) في المئة فقراء معدومين، وماذا نقول عن أهل الشام وقد فقدوا كل شيء وها هم هائمون على وجوههم مشردون مهجرون في بلادهم وخارجها، الآلة الإيرانية وحزب الشيطان والنظام الفاسد والأسلحة الروسية تقتلهم وتشرهم لينزحوا خارج ديارهم غصبا.
وإذا كان البنك الدولي في أحد تقاريره يذهب إلى التأكيد أن الفقر يتراجع بشكل ثابت في العالم، ويتحفظ البنك قائلا أن الحملة في القضاء عليه بحلول عام 2030 تواجه تهديدا بسبب تزايد الفوارق الاقتصادية بين الدول، لكن الحقيقة الثابتة تؤكد أن مشهد الفقر في عالمنا هذا، عالم الصراعات والنزاعات والحروب يحتضن عدداً غفيراً من البشر الفقراء يزيد عددهم عن (800) مليون نسمة.
إذاً الفقراء المحرومون من قوت يومهم يزداد عددهم خاصة في الدول الأكثر فقراً والتي يطبق على السلطة فيها أنظمة دكتاتورية بشعة لا تقبل في التطور والتقدم والتنمية المستدامة، وتبقي اقتصادات بلدانها مغلقة مكبدة بالفساد المالي والإداري، حتى أصبحت دولهم غارقة في التأخر الاقتصادي والتنمية والصحة والتعليم..الخ، فزاد عدد العاطلين عن العمل وزادت الفوارق بالدخل بين السكان لتبرز قلة تملك الثروات لتزيد ثراء ويزيد عدد الفقراء فقرا مدقعا.
إن عدد الجياع في العالم يمثل نسبة (11) في المئة من تعداد سكان العالم، وهذه جريمة في حق الإنسانية جمعاء في زمن التسابق النووي للإسراع إلى فناء الإنسانية في زمن تغيّب التسامح والحوار وبرز شراك العداءات والتنافس بدلا من السلام الذي يعم برخائه الأوطان ويبعد عن العالم شبح الجوع.
هذا مشهد من مشاهد الجياع يواجهه مشهد أهل الثراء، في تقرير (مؤسسة أوكسفان التنموية الدولية) السنوي نشرته قبل أشهر جاء فيه أن ثمانية أشخاص في هذا العالم الرأسمالي ثرواتهم تعادل ما لدى (3.6) مليارات إنسان يعيشون على كوكب الأرض، وهذا يبرز الفجوة الخطيرة بين القلة التي تملك الثروات الطائلة والأغلبية الذين لا يملكون قوت يومهم.
التقرير في تقديراته الإحصائية يؤكد أن عاهة الفقر تتزايد بينما سفينة الثراء تتسع ففي الفترة من 1988 - 2011م تركزت الثروة في أيدي (1) في المئة هم الأكثر ثراء ولذلك زاد عدد المليارديرات في العالم ليبلغوا (1542) ، وزاد عدد المليونيرات على مستوى العالم ليبلغ (16.5) مليون ثري، وبلغ حجم ثرواتهم (63.5) ترليون دولار وتتوقع بيوت خبرة واستثمار أن تبلغ ثروات هؤلاء الأغنياء (100) ترليون دولار عام 2025م.
هذه الثروات الهائلة التي تتضخم بشكل مهيب عاما بعد آخر أصحابها في الدول الصناعية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا والصين واليابان، فرنسا، بريطانيا، السويد، سنغافورا، وقارة آسيا التي نعيش على أرضها لها نصيب الأسد، فالذين يسيطرون على الثروات فيها بلغ عددهم (563) مليارديراً، وهذا طبقا لدراسات تصدرها بيوت خبرة في الولايات المتحدة وهونغ كونغ وغيرها.
إن هذه الأرقام الفلكية توضح لنا بجلاء الاتساع الكبير بين من يملكون الثروات غير المحدودة التي لو فرشت على وجه كوكبنا الأرضي لما شاهدنا ذرة رمل منها، ولو نظرنا إلى حال من لا يملكون شيئا يذكر لوضحت لنا المعادلة - غير العادلة - وكثيرا ما شاهدنا مؤتمر (دافوس) الشهير الذي يضم الكثير من أهل الثروات ورجال المال والاستثمار وساسه حاليين وسابقين، ويغيب عن هذا المنتدى إلى حد كبير مواجهة تحدي الفقر والعوز الذي يعاني من وطأته نسبة كبيرة من سكان هذا الكوكب.
الفقر كارثة كبرى تحتاج من دول العالم المنضوية تحت مظلة الأمم المتحدة التعاون الجاد للوقوف في وجه هذا الوحش المفترس، كما هم يقفون اليوم ضد الإرهاب الأسود الذي يهدد الدول والمجتمعات فشنت عليه حرباً لا هوادة فيها.
اليوم حريّ بهذه الدول غنيها وفقيرها أن تشمر عن سواعدها لتضمن لهذا العدد الغفير من البشر الذين يتضورون جوعا تمكينهم من الحد الأدنى من الطعام والصحة والتعليم والمياه الصحية ليستفيدوا ولو بنزر قليل من الثراء الفاحش الذي يعيشه الأغنياء لكسر شوكة الفقر، أو على الأقل الحد من سطوته على البشر.
هؤلاء المحرومون الجائعون الذين نغّص عليهم الفقر حياتهم وملأها بالآلام والحسرة ولونها بلون الحزن الكئيب وهدّ الجوع والمرض قواهم كما تنقل لنا وسائل الإعلام هروبهم من بعض الديار العربية لا يستطيع بعضهم أن ينهض من على الأرض بسبب الضعف والهزال الذي هدّ أجسادهم.
هؤلاء لهم إن شاء الله الجنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
والله ولي التوفيق.
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة