د.ثريا العريض
مع موسم الأمطار الغزيرة عايشنا بحزن متشائم تكرر السيناريو الذي وجدت فيه جدة نفسها عام 2009 تواجه السيول القاتلة, مكبلة ببنية تحتية ضعيفة مليئة بثغرات فساد التخطيط لمناطق السكن وفساد التصميم والتنفيذ للشوارع وشبكات تصريف المياه. ورغم أنّ الكثير من جهود التحقيق ومخصصات الميزانية كرس منذ ذلك الحين, لتصحيح ما اكتشف وقتها من أخطاء, إلا أنه بعد هدر سنوات يعيد التاريخ والجغرافيا تكرار المعاناة والخسائر فكأنما تحالفت الطبيعة مع المتشائمين والشاكين , لكشف مواقع الفساد في المشاريع وذمة البشر.
من المسؤول؟ يعلو التساؤل الغاضب من كل الجهات مركزاً على رغبة المحاسبة والمعاقبة. وبلا شك لن يتقدم أحد ليعترف أنه مسؤول عما سبب كل الخسائر والتقصير. وتؤشر أصابع التذنيب لجهات إدارية وتنفيذية أخرى.
التساؤل حول نزاهة ومصداقية تقييم الفرد لذاته ولموقعه من معطيات الواقع ورغباته الفردية موضوع متشعب ويتناول شتى جوانب الأداء والحكم على الغير. لست هنا لتجريم أي جهة أو فرد بعينه كما يحلو للبعض أن يفعلوا لدوافع شتى. ما يهمني هو مسألة غياب الذمة والصدق والتهاون في تطبيق شروط التنفيذ المهني والاكتفاء بمظهر إتمام المشروع كما يجب مهنياً. السائد هو تقديم المظهر عن المخبر, والتركيز على تأكيد الربحية ولو بالتضحية بحياة الأبرياء. وما يبدأ برشوة للحصول على فرصة تنفيذ المشروع يتواصل بتنفيذ سيئ يكتفي بالظاهر ويخفي المفتقد.
هذه مشكلة تعكس تشوهاً تجذّر في مجتمع تقبّل الازدواجية كعُرف معتاد؛ التظاهر بممارسة الفضيلة والدعاء بأن يستر الله اقترافاته المقصودة.
قلة جداً من لا يهمهم رأي الغير فيهم, وأقل منها من يعتمد على تقييم صادق لنفسه وقدراته في اتخاذ قراراته الحياتية, واختيار المبادرة أو المجازفة في مشاريع يراها الآخرون مقامرة غير محسوبة يتوقع فشلها بمعايير الحسابات الدقيقة. أما الغالبية العامة فيبذلون جهداً واضحاً في رسم صورة جميلة عن الذات لدى الغير.
ليس فقط الأفراد بل حتى المؤسسات تسعى للحصول على تقييم إيجابي من جهات مختصة .. بل قد يدفع مقابل ذلك ما يعتبر رشوة غير مقبولة في مقارنة وتقييم نزيه. وحين ينكشف الواقع يواجه بالفضيحة.
بعضنا يحترم ويثمّن, ويرحب بأي تقييم من مؤسسة دولية مرموقة, أو حتى مؤسسة مشبوهة الأهداف, طالما التقرير يضعنا في رأس قائمة تقارننا بالآخرين إيجابياً. وينزعج ويشكك في أي تقييم - حتى لو جاء من نفس المصدر - يضعنا في أسفل قائمة مماثلة. وبالعكس، في مفارقة تستحق وقفة تأمل، يرحب بعضنا الآخر بأي تقييم من مصدر داخلي أو خارجي يصنفنا سلبياً، حتى لو انحدر إلى هجوم مقذع، ويمنح قائله مصداقية مضاعفة على أنه ناقد لا يجامل يسمي الأشياء بأسمائها. وبين الموقفين نتعرض لتهمة التحيُّز للذات والرغبة في صبغ الحقائق بلون زاهٍ، أو لتهمة جَلَد الذات والتحيُّز لرؤية الجوانب السلبية فقط.
ويضيع بين هذا وذاك أهمية المعيار المهني الذي لا يتحيّز ولا يجامل.