د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
قاد الأمير الشاب محمد بن سلمان ولي العهد، بتوجيه من خادم الحرمين الملك سلمان، -حفظهما الله- ما اعتبره الكثيرون إصلاحًا مجتمعيًا واسعًا فيما يتعلق ببعض الحريات العامة، كالحد من سلطات بعض المتطرفين الإسلاميين على المجتمع، والسماح للشعب السعودي بممارسة حياته الطبيعية، كشعوب الأرض الأخرى فيما يتعلق بالفرح والاحتفال؛ وشملت الإصلاحات حقوق المرأة وكرامتها فقُطع دابر التوجس من قيادتها للسيارة أو حقها الطبيعي في العمل.
أيدت غالبية الشعب السعودي هذه الإصلاحات فيما عدى قلة قليلة ما زالت تحت تأثير أدلجة الفكر الصحوي المنغلق. ووجه خادم الحرمين الشريفين بإنشاء مجمع لمراجعة كتب الحديث النبوية التي توسع المتطرفون في الاعتماد على كثير من الضعيف والمنحول فيها، وانزلوها منزلة الأحاديث الصحيحة، بل وفي بعض القضايا قدموها على كتاب الله واعتبروها مفسرة له حتى وإن تعارضت معه. ولا يخفى على أحد بأنه تم التوسع في مبدأ «سد الذريعة» والخوف من جلب الضرر المتخيل في التضييق على المجتمع في كثير من أموره بحيث أصبح تاريخ مجتمعنا الحديث سلسلة متتابعة من التحريم بأدلة ضعيفة أو سدًا للذريعة ثم التراجع والإباحة.
لا شك أن الأنظمة تلعب دورًا مهمًا في تنظيم حياة المجتمع وتنظيفها من الشوائب والشكوك، ولكن الأهم هو تنظيف عقول أفراد المجتمع من هذه الشوائب. فجميل مثلاً أن تصدر نصائح أو فتاوى أو نظم تعيد للمرأة حقوقها ولكن الأهم هو تغيير نظم التفكير الدوني لدى كثير من الأفراد حيال المرأة. فالبعض أنزل كثيرًا من الأفكار المتوارثة في المجتمع منزلة الحقائق المطلقة، أو اعتقد أنها أمور منزلة من عند الله وليست اجتهادات من البشر. وقد مرت كثير من المجتمعات الأخرى بفترات مماثلة لما سمي بالصحوة لدينا. فأوروبا مرت في القرن التاسع عشر بفترة انغلاق وتزمت غير مسبوقين في التاريخ أهرقت فيها كثير من الدماء واتبع الناس سلوكًا تطهيريًا صارمًا تخلّوا فيه عن جميع مباهج الدنيا واعتبروا التزمت، والزهد الشديد، والتعرض للألم ضرورات لرضى الرب وبلوغ الحياة الآخرة. بل إن بعضهم لبس أصفادًا بها مسامير اعتقادًا منه أن تعذيب نفسه يرضي ربه. وهجر آخرون الزواج وتبتلوا لأن الزواج الحقيقي في الآخرة. واعتبر كل مرض يمرضه الإنسان عقوبة إلهية لذنب إما معلوم أو خفي فتوجس الناس بشكل مبالغ فيه من ارتكاب الذنوب. هكذا كانت أوروبا قبل الإصلاح والتنوير.
قاد المفكرون ورجال الدين المتسلحون بالعلوم حركة الإصلاح الديني في أوروبا لتغيير هذه النظرة الخاطئة للحياة ولعلاقة الإنسان بربه. وبدأت الحركة بتنوير المجتمع بعدم تصديق كل ما يردده القساوسة على أسماعه، فالقساوسة يمثلون أنفسهم ووجهة نظرهم ولا يمثلون الرب في الأرض كما يدعون. وطلب التنويريون من المجتمع تجاوز أفقه الفكري المنغلق بإعمال عقولهم والثقة في أنفسهم وعدم تسليم عقولهم بشكل تلقائي لغيرهم. وتزامن ذلك مع مراجعة كثيرٍ من النصوص المتوارثة التي تمنح القساوسة العصمة المطلقة من الخطأ أو تمنحهم أمورًا إعجازية كغفران الذنوب، أو التواصل مباشرة مع الرب، أو الادعاء بامتلاكهم حق بيع صكوك الغفران. كما أقر هؤلاء المفكرون والمصلحون بحق الاختلاف واعترفوا بالديانات الأخرى بعد أن كانت الكنيسة الكاثوليكية تعتبر كل من يخالفها مهرطقًا وتدعو لقتاله. ولهذا السبب هاجم الصليبيون الأراضي المقدسة في حربهم مع المسلمين.
رفض التنويريون الحقيقة المطلقة لغير وجود الرب. وشجعوا الناس على تلقي العلوم الطبيعية والفلسفة بعد أن كانت الكنيسة تعاديها وتحرمها، فجميع الظواهر الطبيعية، حسب الكنيسة، بما في ذلك الأمراض والحوادث تقدير من الرب ولا يجوز علاجها أو محاولة تعطيلها. كما أثبت العلم استحالة بعض المعجزات التي كانت تساق لتقديس القساوسة، واخترع الطب كثير من الأدوية التي تغلبت على الألم، وكسر الطوق الذي يقصر التفكير على رجال الدين فقط، وشجع الناس على أن يقدروا الأمور بأنفسهم، فالله منح البشر حقوقًا وعقولاً متساويةً. وتحول الدين لعلاقة بين الفرد وربه بدون وساطة القساوسة. وتم ربط الدين بأخلاق المسيح لا بمعجزاته. وفتح باب الاجتهاد، والتسامح والاختلاف وأصبح احترام الآخر وحقه في الاختلاف واجب ديني. والحقيقة أن هناك بعض التشابه بين أوجه التزمت التي نشرتها الصحوة في مجتمعنا وبعض مظاهر التدين في القرن التاسع عشر الأوربي. اُختلقت وانتشرت قصص المعجزات عن المجاهدين في كل مكان. قدمت بعض الأحاديث الضعيفة التي أسبغت قدسية على عصور الصحابة والتابعين بعضها يعارض القرآن. اعتبرت الدنيا دار مشقة تفضي للآخرة فقط، وحورب العلم وحورت الحقائق العلمية. انتشر الإحساس المفرط بالذنب وكراهية الحياة، واتسعت دائرة التحريم والتفتيش على الناس في معتقداتهم. فاليوم نحو أحوج ما يكون للتسامي وإعادة النظر في بعض هذه المسلمات لنتحول لمجتمع إسلامي منفتح متجدد.