د. محمد عبدالله العوين
سأقف عند قضية واحدة فحسب من القضايا المهمة العديدة التي تناولها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في حديثه للكاتب توماس فريدمان ونشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية ؛ وتتمثل في قوله: «نحن لا نقول إننا نعمل على إعادة تفسير الإسلام ؛ بل نحن نعمل إلى إعادة الإسلام، وأنّ سنّة النبي صلى الله عليه وسلم هي أهم أدواتنا، فضلاً عن الحياة اليومية في السعودية قبل عام 1979م».
يؤكد الأمير محمد في هذا الحديث شخصية القائد الحصيف، المدرك كل التفاصيل الدقيقة التي تحيط بالمشهدين الداخلي والخارجي.
ويستخدم في عباراته ألفاظاً محددة واضحة المعنى لا تقبل التأويل والتفسير، ويرمي سهامه على الهدف مباشرة بجرأة وشجاعة.
وهنا لا يواري ولا يداري، بل يواجه فئة من الناس التبست لديهم المفهومات، إما بسبب عدم التعمق في القراءة الواعية والتلقي على يد علماء ضالعين في العلوم الشرعية، أو بسبب ما أحدثه تيار الصحوة من تشويه للمفاهيم وتغيير للسلوك وتوجيه مقصود نحو التشدد والغلو ومزيد من الاحتقان على الواقع، للوصول إلى التغيير المنتظر الذي يحلمون به.
والحق أنه قد تضافرت عوامل عدة لاختطاف مجتمعنا قبل 1979م، وليست جماعة الإخوان المسلمين إلا أحد الأسباب القوية المساعدة لتكون ظاهرة التشدد والغلو، فجماعة التبليغ الهندية أو «الأحباب» كما كانوا يعرفون بهذا الاسم، تحفر بأدواتها منذ سنوات وتكون دراويش يتنقلون من مدينة إلى قرية إلى ريف، ثم يجمعون مما يصطادون من السذج أفواجاً انقطعوا عن أعمالهم وأُسرهم، أو بأدق تعبير طلقوا الحياة وتفرغوا للتصوف والزهد المدعى وأخلصوا أنفسهم للتبتل في الزوايا والسير في الفلوات، هذه جماعة ساعدت على إشاعة روح السلبية والغفلة والزهد في العمل والإنتاج، وساعدت على استجابة عدد من أتباعها لدعوات التشدد المسيّسة التي نشأت لاحقاً بتأثير هجرة أعداد كبيرة من جماعة « التكفير والهجرة « الإخوانية إلى المملكة، وبخاصة المدينة المنورة بعد مطاردتهم والتضييق عليهم في مصر ليزيدوا من مساحة تأثير جماعة الإخوان المسلمين، التي بدأ أوائلهم الهجرة منتصف 1385هـ/ 1965م، ووضعوا البذور الأولى لفكرهم في التربة السعودية بعد هجرة أوائلهم من مصر هروباً من سجون عبد الناصر؛ فاعتنق فكرهم نفر من الجهلة وضعاف التعليم والمأزومين إما بأنفسهم أو بعدم التصالح مع الواقع ومتغيرات العصر؛ كما كان شأن «جهيمان» وجماعته، التي كانت تُعرف «بأهل الحديث» أو «بالجماعة السلفية المحتسبة»، فاجتمع في فكر هذه الجماعة قدر كبير من التشدد والغلو الموروث، إما من البيئة أو من الإسناد الخاطئ إلى السلف، مندمجاً مع ما نقلته جماعة «التكفير والهجرة «من أفكار التكفير ومفهوم الهجرة عن المجتمع ؛ فكوّنوا لأنفسهم من عُرفوا بـ«جماعة النخل» منتجعين مكاناً بعيداً عن حاضرة المدينة المنورة.
وقد تضافرت أنشطة تلك الجماعات في الحدث الفاجع المؤلم في الحرم مطلع عام 1400هـ، ثم ما أعقبه من تمكن «الإخوان المسلمين» من أدوات التأثير في المجتمع ؛ فأحدثوا تغييراً شاملاً في المناهج التعليمية والإعلام وسلوك المجتمع، وأعادوا رسم صورة المجتمع السعودي وفق الرؤية المتشددة التي يرون الإسلام من خلالها.
كان الأمير محمد في حديثه عن مفهوم الإسلام المعتدل غير موارب ولا مداهن ولا مجامل، وقليلون هم أولئك الذين يتحدثون بقوة وثقة وشجاعة عن المفهومات الدينية الملتبسة المتداخلة إما مع التقاليد أو مع رؤى جماعات الإسلام السياسي، في مجتمع لم يألف من يقول له إنّ ثمة فرقاً كبيراً بين الإسلام النقي من نبعه الأول، ومفهومات الجماعات السياسية.
يسعى الأمير الشاب المتقد ذكاءً وهمة وعزيمة ووعياً نادراً، إلى أن يعود بالمجتمع إلى النبع الأول، وإلى المصدر الصافي العذب الذي نهل منه المجتمع الإسلامي في عهد الرسول الكريم، ويريد أن ينفي ما علق بالإسلام من تشويه الجماعات الضالة والغالية والمسيّسة.
وهذه لعمري مهمة لا ينهض بها إلاّ أولو العزم من القادة العظام .