د.عبدالعزيز الجار الله
رحل إبراهيم خفاجي -يرحمه الله- وهو من جيل الحجر والطين. وُلد عام 1926م، أي بعد الحرب العالمية الأولى بسنوات قليلة. هذا الجيل ينتمي للبيوت الطينية والحجرية والشوارع الترابية.. أزمنة تختلف عن واقعنا بكل خصائصه العمرانية إلا بالوجوه التقليدية، مثل ملامح وسمات وجه خفاجي الذي يجسد الوجه الحجازي النمطي الذي ما زالت الحارة تسكن وجدانه، والمشربيات والرواشن وشبابيك الواجهات الخشبية، وأزقة مكة المكرمة المتلاصقة والمتعاشقة في مداخلها وانسيابها.
كتب خفاجي أجمل كلماته وهو في دهاليز مكة وجدة والرياض، وقرى جازان وجبال الطائف ومدن الساحل الغربي: القحمة، القنفذة، الليث، رابغ، ينبع، أملج، الوجه، حقل.. ومدن وقرى الجبال والهضاب الشرقية؛ إذ كان يعمل موظفًا حكوميًّا وشاعرًا، يرحل مع حالة عشق لا يستقر.. كتب ذاكرة جيل الخمسينيات عندما كانت الأُسر والشباب يأتون إلى مدن الحجاز ونجد والجنوب والشرقية والشمال، إلى بناء الوظائف والمباني وحياة حضارية، رافقتها موسيقى الصحراء، وتردد الجبال وعزف الرمال والرياح.. حتى كان خفاجي صاحب الحس الشعري المرهف الذي كتب أجمل الكلمات، النشيد الوطني من واقع الحالة الإيمانية وحب تراب الوطن؛ فكانت حاجتنا إلى النشيد دائمًا، حاجة دائمة للوطن ووحدة الأرض والإنسان.. ثم أغنيات لمحمد عبده، وأخذتنا مراحل متداخلة، ليس حالة عشقية فقط، وإنما نمط حياتي، ذكَّرنا وربطنا بالأهل والخلان والأحباب بلغة حوارية راقية، يغرف من معين الحجاز بلطف ومحبة وعتب الشقيق والحبيب والصديق.. يقول خفاجي بصوت محمد عبده: «ما في داعي من حنانك كل يوم عذل جديد، ولنا الله يا خلي من الشوق/ يا نسيم الصبامع الصباح تعرف الدرب، وأشوف كل يوم وأروح أقول نظرة ترد الروح، مثل صبيا بالغواني ما تشف ناقشت الفل والنقش اليماني بالكفوف، لآخر لحظة من عمري أقولك أنت محبوبي، وأغنية العيد البهية من العايدين/ السعادة لكل ناوي، ولو سمحت المعذرة هي فرصة مقدرة، لو كلفتني المحبة من عمري، ورحلة البحث في أرض الجنوب ظبي الجنوب ليت مرباي الجنوب، وأوقد النار يا شبابها في حرب 1973م مع إسرائيل». ولطلال مداح: «الشوفة معزوزة، ومربي ناعم الأطراف، وتصدق وإلا احلف لك». وهي التي أظهرت جوانب من عذوبة طلال مداح.
يرحل هذا الطائر (الولهان)، يملأ أرضنا بكلمات الحب، ويروينا بماء مخضب برائحة هذا الوطن الذي لا نتعب من حب ترابه.